تعد الطاقة أمرا مهما لأدوارها المباشرة في الحياة الاقتصادية، لكنها أيضا تعد منظارا لمراقبة التحولات الاقتصادية والتقنية على مر التاريخ، على الأقل منذ بداية الثورة الصناعية، في تقرير موسع من بنك JP Morgan حول تحول الطاقة، لفتتني 3 ملاحظات: الأولى، أن العالم لم يكمل التحول الأول في منظومة الطاقة التي سيطرت على المشهد قبل الثورة الصناعية، إذ لا يزال العالم يستخدم الأخشاب وغيرها لتوليد نحو 6 % من الطاقة الأولية اليوم، مقابل نحو 2 أو 3 % فقط من الطاقة المتجددة (مثل الطاقة الشمسية والرياح). الملاحظة الثانية، أن هناك حاجة ملحة لطاقة مؤثرة لتمكين الطاقة الجديدة، تتمثل هذه الطاقة في الأساس في تعدين وتسخير كثير من المواد الأولية المعدنية. الثالثة، أن طبيعة استثمارات الطاقة تتطلب -على نقيض الاستثمارات المالية التقليدية- استثمارات في الطاقة حيث تحتاج إلى طاقة لتوليد الطاقة الجديدة، علاقة تتمثل وتقاس بعائد. تلتقي هذه الملاحظات الثلاث في اقتصادات وتقنيات عالم المواد الأولية، الذي يؤدي دورا أساسيا في الاقتصاد ويأخذ بالحسبان الجديد في ملحمة التحول في الطاقة. إن نظام الطاقة في حالة تحول وتداخل مستمر عبر التاريخ.
المميز في التحول الحالي هو وجود 3 علامات فارقة: الأولى، أن نظام الطاقة يواجه تأثيرات سياسية وحتى إيديولوجية لتسريع التحول نحو التصفير الكربوني، حيث يكون هناك إجماع علمي وسياسي، وأحيانًا إيديولوجي، حول ضرورة التصفير. الثانية، أن العالم يشهد توجهًا نحو تنويع مصادر الطاقة، بحيث لم يعد هناك مصدر واحد سائد كما كان في الماضي، حتى في مكونات الطاقة الهيدروكربونية حيث كان الفحم مسيطرا ليبدأ بعده النفط ومن ثم الغاز في حالة استبدال مستمرة. الثالثة، أن هناك مراهنات غير محسوبة في التأثيرات الاقتصادية والبيئية للانتقال من الطاقة الهيدروكربونية إلى الطاقة المتجددة، ممثلة في التوجه نحو صناعة التعدين وتسخير المعادن لإنتاج الطاقة المتجددة، البحث في التعدين أوصلني إلى قراءة كتاب عالم المواد "Material World" للكاتب البريطاني أد كونوي، الذي يتتبع تاريخ تعدين وتطوير وتنقية وتوظيف 6 مواد أولية، يستخدمها الجميع بكميات ودرجات مختلفة في التنوع والتفاصيل العلمية والفنية، مثل الرمل والملح والحديد والنحاس والنفط والليثيوم، طرح ممتع، فعلى مدى قرون تخللتها تطورات علمية وفنية تدخل في التنافس والحماية التجارية والاقتصادية بين الصين والغرب.
اللافت هو أن العالم يتجه نحو اقتصادات الخدمات، فمثلا في أمريكا نحو 80 % من المصروفات تذهب إلى الخدمات، لكن قاعدة الاقتصاد في هذه المواد الـ6 والتطورات فيها متجددة، ومستمرة في التوجه إلى مصادر الطاقة الحالية والطاقة المتجددة. لكل مادة مسارات اقتصادية وفنية تتداخل معا، ويتزايد التعقيد عندما نفرق بين السعر والأهمية، فما يبدو أنه تناقض يصبح أقل تناقضًا عندما نتابع سلم التقنية والقيمة الاقتصادية في تفاعلهما عبر التاريخ، أحد أوجه التناقض هو أن هناك فرقا كبيرا يتمثل في وجود الموارد في بعض الدول وتسخيرها وتطويرها في دول أخرى، مثل العلاقة الفنية بين الرمل وصناعة أشباه الموصلات. في هذا السياق، تتجه السعودية نحو تنويع مصادر الطاقة وتعزيز صناعة التعدين في محاولة جادة للتكامل. لذلك، لا بد من تكامل رصين بين قطاع الطاقة والتعدين من جهة، وارتقاء السلم التصنيعي والمعرفي والتقني من جهة أخرى.
نقلا عن الاقتصادية
رائع