عادةً ما تتعقد المشاهد وتتشابك الأحداث فتصبح الحاجة لتفكيكها ضرورة قصوى لكي تعرف المجتمعات أين تقف في مسيرتها بالتنمية، وما تحتاج إليه لكي تتماشى مع الواقع، وتخطط بمنطقية لمستقبلها، فغياب التحليل الواقعي لما يدور بالعالم وأين يتجه، بالتأكيد سينتج عن ذلك قرارات، إما خاطئة أو متأخرة عن المجتمعات التي تتقدم بسرعة هائلة نحو الآفاق الجديدة التي شكلها النظام العالمي الجديد، والقراءة الواقعية لا بد أن تكون المصالح مع العالم ركيزة أساسية فيها، وفي عالمنا اليوم الذي تشتد فيه المنافسة بكل المجالات، وتحاول دول كبرى أن تبقى على مكانتها أو توسع من حجم استفادتها وتأثيرها، بما يسمى تعدد الأقطاب، تبرز أهمية المصالح، وإعادة تعريفها وتشكيلها من جديد، فموازين القوى تتغير عالمياً بسرعة مذهلة واهتمامات البشر بالتنمية والتقدم العلمي أيضاً شهدت تغيرات ضخمة جداً، فعالمنا أصبح للتكنولوجيا دور رائد في قيادة اقتصاده، وتتباهى الدول بما تملكه من تقنيات حديثة واعتمادية على الرقمنة والأتمتة والذكاء الاصطناعي، فالأعلى من حيث القيمة السوقية بأكبر بورصات العالم هي شركات التكنولوجيا التريليونية، والتي أزاحت شركات الصناعات التقليدية، وكذلك الخدمات التي تسيدت قمة الهرم في البورصات لعقود بقيمها التي كانت عليها في حينها لكنها اليوم أصبحت في مواقع متأخرة أو متوسطة بترتيب أكبر الشركات سوقياً.
إن الناظر للعالم كيف يتحرك يشاهد كيف تبنى المصالح وكيف تتشكل التحالفات، وكذلك الدقة في قراءة الواقع والتعلم من الأخطاء التي وقعت في الماضي، فأوروبا ومنذ عدة سنوات تحاول أن تتحرك بسياسة مستقلة عن واشنطن بعد سنوات طويلة من التحالف منذ الحرب العالمية الثانية، ورغم التحديات والصعوبات، لكنها بدأت بخطوات تدريجية للوصول لأهدافها، وكذلك الحال في شرق آسيا، وتحديداً الصين ثاني أكبر اقتصاد عالمي، والتي عززت توجهاتها في بناء مصالحها من خلال مبادرة الحزام والطريق، وإنشاء أذرع مالية ضخمة، واستطاعت أن تكون الدولة الأولى في التجارة الدولية، وتوصف بأنها مصنع العالم، لكنها لتعزيز مكانتها الدولية ابتكرت طرقاً عديدة للشراكات مع الدول في مختلف القارات، وهذا تفعله روسيا أيضاً مع آسيا وأفريقيا والشرق الأوسط ببناء علاقات ذات طابع مبني على مصالح مستدامة، كما تقوم تكتلات في دول أمريكا اللاتينية، وكذلك تكتل آسيان لمواجهة التحديات والمنافسة الدولية الحالية والقادمة، وفي الشرق الأوسط تبرز دول الخليج العربي كقوة في الاقتصاد العالمي من خلال استثمار ثرواتها داخلياً، وتعزيز شراكاتها خارجياً بنظرة واقعية أدت لنهضة كبرى فيها، لكن بالمقابل فإن غياب الواقعية عطل وأبطأ دولاً عديدة، وتحديداً في العالم العربي، فتأخرت التنمية في عدة دول، وأدى ذلك لضغوط داخلية كبيرة عليها، وبعضها تحولت إلى دول تعاني من عدم الاستقرار، نظراً لعدم واقعية القراءة لديها، سواء لاحتياجاتها التنموية الحقيقية، وكذلك للتطورات الدولية كي تبني مصالحها بطريقة نافعة، تضع لنفسها موطئ قدم في القرن الواحد والعشرين.
فكثير منها ما زالت في القرن الماضي عملياً، ولعل الأحداث الحالية في المنطقة، والمتمثلة في العدوان الإجرامي للكيان الإسرائيلي على قطاع غزة وشعبه الأعزل أظهر الكثير من انعدام الواقعية في مواقف تلك الدول تجاه الأحداث، وتقديرها الصحيح للخطوات التي يفترض أن تتحرك من خلالها لدعم إيقاف هذه الحرب بالتوقف عن الخطابات الشعبوية الرنانة، والفارغة في مضمونها، والتي لا تقدم ولا تؤخر ولا تعكس أي وزن لواقع تلك الدول السياسي والاقتصادي، بينما مارست الدول المتقدمة تنموياً عربياً توجهاً سياسياً واقعياً، يأخذ بعين الاعتبار مصالح المنطقة، والدفع نحو إعادة الاستقرار فيها، رغم كل التحديات والصعوبات والتعقيدات السياسية الدولية، وما خلفته جائحة كورونا مأزمة اقتصادية طاحنة بالعالم بالإضافة لآثار الحرب الروسية الأوكرانية الاقتصادية السلبية على العالم إلا أن أحداث غزة البالغة الأهمية التي تثير مخاوف عديدة إذا توسعت دائرتها، تبقى تحديًّا كبيراً للمنطقة العربية، ولذلك فإن التعامل السياسي الواقعي لاحتواء هذه الحرب، وإيقافها والذهاب لمعالجة ملف القضية الفلسطينية بحل الدولتين، وفرض السلام هو السبيل الوحيد لكي تستقر المنطقة، وينطلق مسار التنمية من جديد فيها، وهو الأمر الذي يجب أن تعيه بعض شعوب المنطقة المغيبة عن الواقع، وتفترض حلولاً غير واقعية لن تحقق أي هدف سوى مزيد من الانتكاسات أو التراجع بالاقتصاد العربي عموماً.
فإسرائيل تتمنى الفوضى عربياً، وتحاول أن تغير الواقع في غزة بتلميحات صريحة للتهجير، ومن خلال القصف العشوائي على المدنيين الذي أدى إلى وصول عدد القتلى والمصابين والمفقودين إلى 88 ألفاً، فهناك 12 ألف طفل قتلوا بهذه الحرب، وكذلك تهجير داخلي لحوالي 1.8 مليون نسمة في قطاع غزة، كما تحاول إشعال الضفة الغربية لتغير الواقع بها، والقضاء على ما تبقى من اتفاق أوسلو، ولن تتردد عندما تجد أي فرصة مناسبة لقصف لبنان، ومع ذلك هناك من يتحرك من بعض الدول العربية بخطابات ومطالبات عاطفية شعبوية، للتحرك ضدها عسكرياً لإشعال المنطقة وإدخالها بدوامة من الحروب، والتراجع الاقتصادي، رغم أنهم لا يمثلون أي موقع رسمي، إنما محرد زعامات شعبوية سياسية استغلت ضعف واقع دولهم، ليصبحوا أقوى من حكوماتهم الرسمية، فهذه المطالب والتهييج الشعبي لن تستفيد منه سوى إسرائيل المدعومة غربياً بالمال والسلاح والدعم العسكري والسياسي بقيادة أمريكا، وكذلك ستستفيد الدول التي تطمح لأدوار كبيرة بالشرق الأوسط على حساب العرب إذا توسعت دائرة هذه الحرب.
معيار المصالح الصحية يفرض أن تكون الواقعية هي القياس الحقيقي لكل تحرك سواء في احتواء أزمات أو بناء شراكات مستدامة، وكذلك تنمية حقيقية تعزز من قوة الدول، وبذلك تتمكن دائماً من تحقيق مكاسب بكل تحركاتها، أما المسكونون بخطابات عفا عليها الزمن، وأثبتت أنها مجرد إلهاب للحماس دون فعل وعمل حقيقي، بالإضافة للاستسلام لنظرية المؤامرة دون فهم للواقع، والوقوف على الإمكانات، وتوظيفها لفرض ما تريد على للساحة الدولية، والحفاظ على المكتسبات، وتعزيز قوة الدولة وزيادة الوعي في المجتمع، ليكون أكثر فاعلية في ازدهار الدولة وعماد تنميته.
نقلا عن الجزيرة
مقال جميل ويتفق معك فيه كل اصحاب العقول المستنيرة الحكمة ضالة المؤمن منطقتنا وسط قوى تتراشق فيما بينها بالنار لأهداف توسعية معلومة نحن بحمد الله قوتنا في حكمة ولاة امرنا حيث التركيز في البناء والتطوير والتصنيع والابتكار وبناء جسور التواصل مع كل محب للخير والسلام ونصرة المظلومين