مما يبدو حتى تاريخه، من المؤشرات الاقتصادية غير المواتية المتوقعة للاقتصاد العالمي خلال العامين إلى الأعوام الثلاثة المقبلة، وانعكاساتها على مختلف الاقتصادات والأسواق حول العالم، على رأسها أسواق العمل وما قد تواجهه من تحديات جسيمة بالتزامن مع توقعات ضعف نمو الاقتصادات بمعدلات متفاوتة، قد تؤدي إلى ارتفاع معدلات البطالة في مختلف أسواق العمل عالميا، تحت ضغوط الارتفاع المستمر لأسعار الفائدة نتيجة مواصلة البنوك المركزية التصدي للتضخم، إضافة إلى الآثار العكسية لعديد من الاضطرابات الجيوسياسية في أكثر من منطقة في العالم، واحتمال زيادة حدة تصعيداتها والآثار المترتبة عليها. والأخذ في الحسبان قبل كل ما تقدم ذكره. الاختلافات القائمة بين الاقتصادات وأسواق العمل محليا وفي بقية الاقتصادات الأخرى، التي تواجه تحديات معدلات تضخم مرتفعة جدا، في الوقت ذاته تستقر معدلات البطالة لديها عند أدنى مستوياتها تاريخيا في أكثر من 50 عاما مضى، كالوضع الراهن في الولايات المتحدة "بلغ معدل البطالة فيها 3.7 في المائة بنهاية نوفمبر الماضي"، ويرى الاحتياطي الفيدرالي في إطار مواجهته للتضخم المرتفع أن القبول بارتفاع معدل البطالة إلى مستويات بين 4 و5 في المائة، يعد جزءا رئيسا من خطته لخفض التضخم إلى 2.0 في المائة، ودوره في خفض حجم الإنفاق المؤدي إلى ارتفاع أسعار المستهلك، وهو الأمر المختلف تماما عن الوضع محليا، الذي يشير إلى استقرار معدل البطالة محليا بين المواطنين عند 8.3 في المائة "الربع الثاني 2023"، بينما لا يتجاوز معدل التضخم سقف 1.6 في المائة أكتوبر 2023، وأن ارتفاع معدل الفائدة محليا مرتبط بطبيعة السياسة النقدية المعروفة.
كما توجد كثير من الاختلافات الأساسية الأخرى في عديد من مؤشرات أداء الاقتصاد الأمريكي والمحلي، ففي الوقت الذي سجل الاقتصاد الأمريكي نموا حقيقيا بنهاية الربع الثالث 2023 بلغ 5.2 في المائة، رغم السياسة النقدية المتشددة، جاء معدل النمو الاقتصادي الحقيقي محليا سلبيا بنحو 4.4 في المائة للفترة نفسها، وسجل تباطؤا للقطاع غير النفطي للفترة نفسها إلى 3.2 في المائة. أما على مستوى مقارنة المؤشرات المالية، ففي الوقت الذي تواجه خلاله المالية الأمريكية واحدة من أصعب فتراتها -إن لم تكن الأصعب- بوصول الدين العام الأمريكي إلى أعلى 33.8 تريليون دولار أمريكي (122.3 في المائة من الناتج المحلي الإجمالي)، ما يقلص بدرجة كبيرة الخيارات الممكنة أمام الخزانة الأمريكية لمزيد من الإنفاق، عدا ما يشكله ارتفاع تكلفة فائدة سداد ذلك الدين العام الكبير، وزيادة نسب استقطاعه من الإنفاق الحكومي الأمريكي.
محليا، يختلف الأمر بدرجة كبيرة جدا، فالمالية العامة محليا تحظى بتوافر احتياطيات ممتازة، وحجم دين عام لا تتجاوز نسبته إلى الناتج المحلي الإجمالي 24.8 في المائة (1.0 تريليون ريال)، ووفقا لأحدث بيان ميزانية صدر أخيرا، تخطط المالية العامة لانتهاج سياسة مالية تحفيزية يناهز حجمها سنويا ثلث الناتج المحلي الإجمالي خلال الفترة 2024 - 2026.
بناء على ما تقدم، وبالنظر إلى أحدث مؤشرات أداء سوق العمل المحلية حتى نهاية الربع الثالث من العام الجاري، التي أظهرت تباطؤ النمو السنوي للعمالة المواطنة في القطاع الخاص إلى 6.2 في المائة، مقارنة بنموها خلال الربع نفسه من العام الماضي بنحو 17.2 في المائة، بالتزامن مع تباطؤ النمو الحقيقي للقطاع الخاص لفترة المقارنة نفسها من 6.2 في المائة العام الماضي إلى 3.4 في المائة بنهاية الربع الثالث من العام الجاري، وتحت توقعات أن تأتي معدلات نمو الاقتصاد العالمي خلال العامين إلى الأعوام الثلاثة المقبلة أدنى من المعدلات السابقة، إضافة إلى استمرار ضغوط أسعار الفائدة المرتفعة، سيكون من الأهمية بمكان استحداث مزيد من السياسات الاقتصادية والمبادرات اللازمة، التي تدفع بمزيد من توظيف الموارد البشرية المواطنة، وتسهم بفاعلية أكبر في الضغط على معدل البطالة نحو مزيد من الانخفاض، وهو الأمر الذي سبق تأكيده في مقال سابق "قراءة أدق لتوطين وظائف القطاع الخاص" التي انطلقت من أهمية الاعتماد على استبعاد العمالة الوافدة التي تشغل وظائف متدنية الأجور والمهارات، ولا تحظى بطلب حقيقي من قبل الموارد البشرية المواطنة، وقد تصل إلى رفض تلك الوظائف بحال تم ترشيح أي من المواطنين أو المواطنات لتلك الوظيفة، لأسباب جوهرية ترتبط بانخفاض أجرها ومؤهلها المتدني جدا، مقارنة بالمؤهل الذي يحمله المرشح لها من المواطنين، وهي الوظائف التي طالما تم اقتراح استبعادها من موازين برامج التوطين، لارتفاع عبئها على منشآت القطاع الخاص، بدءا من عدم توافر الراغب فيها من الموارد البشرية المواطنة، وصولا إلى ارتفاع المقابل المالي المحسوب عليها بحال اشغالها بالعامل الوافد الذي لا بديل محلي له.
تتطلب الفترة المقبلة المكتظة بالتحديات الاقتصادية عالميا، أن يتم انتهاج منهجية جديدة تقوم بالانتقال من التركيز الكمي والكلي على الوظائف، إلى التركيز النوعي والتخصصي حسب الوظائف والمهارات والأجور، الذي سيؤدي إلى تخفيف الأعباء عموما على كاهل القطاع الخاص فيما يتعلق بالوظائف الأدنى أجورا ومهارة ومؤهلات علمية أدنى، ما سيؤدي إلى تخفيض تكاليفها على ميزانيات المنشآت، ومن ثم خفض أسعار الخدمات والمنتجات والسلع وزيادة تنافسيتها محليا وخارجيا.
وفي المقابل، نقل وتركيز وزيادة تلك الأعباء إلى الوظائف الأكثر طلبا من الموارد البشرية المواطنة، التي سيسهم تحققها في رفع تكلفة توظيف العامل الوافد في تلك الوظائف على المنشأة، ما سيدفعها بدرجة أكبر إلى تفضيل الاعتماد على الموارد البشرية المواطنة، والخروج من الوضع الراهن الذي سمح بزيادة وظائف العمالة الوافدة أكثر من المواطنة في الوظائف الأكثر طلبا والأعلى أجورا.
لقد كشفت أحدث بيانات الوظائف في القطاع الخاص حتى نهاية الربع الثالث 2023، عن حصول العمالة المواطنة في القطاع الخاص على 13.5 في المائة من إجمالي زيادة عمالة القطاع خلال الفترة الماضية من 2023 (بلغت 18.9 في المائة خلال 2022)، بينما ذهبت النسبة المتبقية 86.5 في المائة لمصلحة العمالة الوافدة (بلغت 81.1 في المائة خلال 2022)، ووفقا لتوقعات أن تأتي معدلات النمو الاقتصادي العالمي أبطأ خلال الأعوام المقبلة، وأن يأتي نمو التوظيف أدنى مما سبق خلال العامين الماضيين، فسيكون مهما أن يتم اعتماد سياسات ومبادرات استثنائية تستهدف منح النصيب الأكبر من نمو الوظائف لمصلحة العمالة المواطنة، والاستفادة بأكبر قدر ممكن من الإنفاق الحكومي التحفيزي للاقتصاد الوطني، ومبادرة أرباب العمل في القطاع الخاص بمشاركة أكبر لجهود ومبادرات وزارة الموارد البشرية، تقوم على الاعتماد بدرجة أكبر على الموارد البشرية المواطنة، سواء في طريق الوظائف الجديدة، أو على مستوى إحلال الوظائف.
نقلا عن الاقتصادية
استراتيجيات معالجة الاقتصاد تتطلب التأني وعدم الاستعجال لكي لا تأول الامور الى ما لا تحمد عقباه. مثال ذلك اعلان حكومة الرئيس الأرجنتيني الجديد الليبرالي المتشدد خافيير ميلي الثلاثاء، بعد يومين من تنصيبه، تخفيض قيمة العملة الوطنية بأكثر من 50% من قيمتها، ليصبح سعر الدولار الأميركي الواحد أكثر من 800 بيزو. حيث ترمي هذه الخطة لإرساء استقرار الاقتصاد الذي يعاني من تضخّم مزمن ومديونية عامّة ضخمة.