كانت النظرية الكلاسيكية في الاقتصاد لا ترى دورا للتعليم في الإنتاج والنمو الاقتصادي، كان الإنتاج يأتي من تفاعل العمل مع رأس المال على أرض فيها الآلات، وكان النظر إلى سوق العمل على أنها مزيج من العمال المتجانسين، فالمدخلات من ساعات العمل التي تسهم في الإنتاج لا تختلف باختلاف العمال، والمهارات التي يتم اكتسابها، إنما يتم الحصول عليها من خلال الممارسة الطويلة على خطوط الإنتاج، وهذا يبدو في أول وهلة صحيحا، ووفقا لهذه النظرة صدرت قوانين التلمذة في بريطانيا، التي سميت بقانون إليزابيث الأولى للتلمذة الصناعية، وهو نوع من التدريب المهني الطويل، الذي يتم فيه إجبار المصنعين على قبول تلاميذ معهم في العمل، حيث يحصل التلميذ على المهارات اللازمة من معلمه من خلال الممارسة. ومع إيمان آدم سميث بالتخصص في العمل، فقد نقد هذا الأسلوب في التعليم في ثلاث نقاط رئيسة هي: أولا، إن التدريب المهني الطويل لم يحم المستهلك من التصنيع الرديء.
ثانيا، لم تتشكل عادات عمل جيدة بل تطور النفور من العمل بدلا من ذلك. ثالثا، إن الفنون التي تتفوق كثيرا على الحرف العامة لا تتطلب تدريبا طويلا. لكن مع كامل النقد الموجه إلى التدريب الطويل والتكلفة التي تصاحبه، فقد عجز الاقتصاد الكلاسيكي عن فهم أسباب اختلاف العوائد على العمل بين فئة المتعلمين وفئة غير المتعلمين، فكما أشرت أعلاه، كانت الفرضية الأساسية تقول إن وحدات العمل متجانسة، مهما اختلفت مستويات التعليم، هذه الفرضية سادت حتى الحرب العالمية الثانية وقد نشأت منها أسئلة لم تجد إجابات حاسمة. أولا، لماذا تزداد الأجور بمعدل متناقص مع تقدم العمر، وهل هذا يرتبط بمعدل الزيادة بمستوى المهارة؟ ثانيا، لماذا تميل معدلات البطالة إلى الارتباط سلبا بمستوى المهارة؟ أي إنه كلما تناقصت المهارة لدى العامل ارتفع احتمال خروجه من العمل. ثالثا، لماذا يتلقى الأشخاص القادرون مزيدا من التعليم وأنواعا أخرى من التدريب أكثر من غيرهم؟ ومع الإصرار على أن وحدات العمل متجانسة فقد كانت الإجابة عن هذه الأسئلة في صيغة سياسية، وأنه يتم التلاعب بالسوق من خلال الدرجات التعليمية "خاصة الدرجات العليا"، فتستخدم الدرجات العلمية للحد من العرض في سوق العمل، وترفع أسعار العمالة، أو تمنح العمال سيطرة أكبر على سياسات العمل نفسها.
لقد مضى وقت طويل جدا، وهذا التفسير الخاطئ جدا أثر بوضوح في رحلة التعليم الجامعي في كثير من التخصصات. فلم تنشأ كليات الأعمال إلا مع منتصف القرن الماضي، وتأخرت كثير من التخصصات الفرعية، فلم تنشأ إلا في وقت متأخر جدا. لقد كانت الفرضية التي أرهقت الاقتصاد حتى منتصف القرن الماضي قد تسببت في شكوك واسعة في تفسير الفرق بين النمو في دول العالم المختلفة، فرغم قدرة عديد من الدول على ضخ الاستثمارات الكبيرة ورأس المال المناسب، إلا أن النتائج لم تكن متطابقة، بمعنى أن النمو لم يكن متطابقا، ورغم النمو المتزايد في العمالة في دول عديدة لكن مع ذلك فإن حجم العمالة وحجم رأس المال لم يفسرا سوى جزء صغير من نمو الدخل الوطني. ولأن الدول التي تمكنت من تحقيق مستويات مستدامة من النمو الاقتصادي كانت تستثمر في التعليم بشكل كبير، فقد بدأ الباحثون وعلى رأسهم شولتز Schultz في الستينيات من القرن الماضي في التساؤل عما إذا كانت جودة المدخلات، خاصة بالنسبة إلى العمل، ثابتة بالفعل، وبما أن التعليم والتدريب يوضحان جودة العمل، فقد تم تطوير خط جديد من الأبحاث، وهو نظرية رأس المال البشري لدراسة كيفية استثمار المجتمع لتعزيز جودة العمال، وبالتالي الإنتاجية، ووضعت بذلك أولى لبنات نظرية رأس المال البشري وعلاقته بالنمو الاقتصادي من حيث: أولا، الدول التي ليس لديها كثير من رأس المال البشري ولا تستطيع إدارة رأس المال المادي بفاعلية.
ثانيا، لا يمكن للنمو الاقتصادي أن يستدام إلا إذا ارتفع رأس المال المادي ورأس المال البشري معا. ثالثا، رأس المال البشري هو العامل الأكثر تأثيرا في النمو. نتيجة لهذا وإذا كانت معظم الأسر في الدول الفقيرة غير راغبة أو غير قادرة على الاستثمار في تعليم أطفالها، وإذا لم توفر الدولة هذا التعليم، فإن رأس المال المادي لن يكون منتجا. التعليم ليس ترفا، والشهادات ليست للتفاخر، المهارات لا يمكن اكتسابها إلا من خلال تعليم ممنهج. لقد أثبتت الدراسات أن الاهتمام برأس المال البشري يعني الاهتمام بالتعليم، وليس أي تعليم، بل ذلك الذي يقود إلى استدامة رأس المال، فهو يحافظ على النمو. السؤال الخاص هنا: هل اللغة محايدة في النمو والإنتاجية، بمعنى هل تختلف الإنتاجية عندما يكون الشخص قد تلقى العلم بالإنجليزية، وبعبارة أخرى هل تنخفض الإنتاجية إذا كان قد تعلم باللغة العربية فقط؟
نقلا عن الاقتصادية