يقال إن الجودة أو النوعية Quality، هي مقياس للتميز أو مقياس لحالة الخلو من العيوب والنواقص والتباينات الكبيرة ويقال في تعريف آخر إنها السمات والخصائص للمنتج أو الخدمة التي تجعله قادرا على تلبية احتياجات المستخدم بشكل صريح أو ضمني، التعريف الأول يعني أن هناك مؤشرا للتميز أو الجودة، والجودة هي الوصول إلى درجة معينة على مقياس ما، ومن يأخذ بهذا التعريف، "التميز على مقياس ما" فإنه سيكون منشغلا بأمرين الأول: اختيار المؤشر الذي يريد أن يحقق فيه التميز، والثاني: بلوغ درجة التميز على هذا المؤشر "بأي طريقة كانت". من يأخذ بالتعريف الثاني فسيكون منشغلا بقياس رضا المستخدم ويسعى دوما إلى رفع قيمة مؤشر الرضا "بأي وسيلة كانت".
بعض الجهات تسعى للجمع بين التعريفين، فهي تسعى للتميز على مقياس معين وتسعى لتعظيم قيمة الرضا. وهناك من يظن "وأظنهم قليلين" بأن الجودة مجرد شهادة من جهة عالمية، يتم وضعها في مدخل المؤسسة. ومهما كانت الجودة فإنها تتطلب الالتزام بمعايير معنية صادرة من الجهات التي تمنح التميز أو المؤشر أو الشهادة، وهناك اليوم تيار كبير من المؤمنين بالجودة عند هذه التعريفات، فترى التسابق على الفوز بمقعد في مؤشر عالمي، أو في ترتيب ما يعني عند هؤلاء تحقيق الأهداف وبلوغ الغاية، ولو لم تتغير حال المنتجات والخدمات في نظر المستخدم، وهناك من يرى الفوز بصورة مع شهادة الجودة بأنه الوصول إلى القمة. ومع شدة هذا التيار وحجم المؤمنين به فمن الصعب تغيير قناعاتهم أو حتى تقبلهم النقد العميق لفكرة الجودة كما تطبق اليوم.
لقد منحني المولى جل وعلا فرصة دراسة مفهوم جودة المراجعة لأعوام عديدة، ودرست معها ولأعوام أخرى فكرة الجودة في مؤسسات التعليم وشاركت في دورات تدريبية واستراتيجية، وتعلمت أعواما أخرى مفهوم إدارة المخاطر والحوكمة، وبعد كل هذا الدراسات فإن أفضل تعريف للجودة قرأته هو الذي يقول: إنها قدرة الجهة على اكتشاف الأخطاء والمخاطر التي تهدد أهدافها والعمل على معالجتها والتقرير عن ذلك بكل صدق ونزاهة، وهذا التعريف الصغير الذي تمت صياغته منذ الثمانينيات من القرن الماضي يعد الجودة قدرة كامنة وغير منظورة لدى الجهة تظهر في شكل فهم وتحليل وقياس أهدافها بدقة وتفسيرها لكل أصحاب المصلحة، ولكل مستخدم للخدمة أو مستهلك للسلعة، فدون الأهداف لا معنى لمنح الأموال، ولا تخصيص الموارد، لا معنى لقضاء أوقات العمل، ودون أهداف لا يرتقي الإنسان ولا الأمم، هذه الأهداف منصوص عليها في نظام المؤسسة، نصا قاطع الدلالة واضح المعاني. هذه الأهداف هي النجم الهادي، هي المسار، هي الغاية القصوى، هي الرسالة، هي الرؤية وهي كل شيء، ومع ذلك قد تكون تلك الأهداف غير معلومة لبعض أصحاب المصلحة ومن بينهم الموظفون الذين يعملون في المؤسسة، ومن بينهم مانحو الأموال، ومن بينهم المؤسسات التشريعية والرقابية، ليس شرطا أن كل من يتعامل مع هذه المؤسسة يدرك أهدافها وأسباب نشأتها، ولماذا يتم تخصيص موارد نادرة عليها، ولهذا السبب تجد من يمضي طريقا طويلا مع جهة عدلية أو خدمية ثم يجد عبارة "عدم الاختصاص" في نهاية الطريق، ذلك أنه لم يجد تلك العبارة عندما بدأ. تأتي الجودة لتحديد هذه الأهداف بدقة وشرحها وتفسيرها والإفصاح عنها والتقرير بشأنها بشكل صادق ونزيه لكل من يتعامل مع هذه المؤسسة، فلا تشغلوا المجتمع برسالتكم، فقط أخبروا الناس صراحة عن أهدافكم واختصاصاتكم وأخطاء الناس في فهم هذه الاختصاص والحلول عند حدوث الفهم الخاطئ، فاكتشاف ذلك وإعلانه هو الجودة.
الجودة تعني أيضا القوة الكامنة غير المنظورة التي تمكن من اكتشاف الأخطاء والمخاطر التي تهدد كل هدف والتقرير عن ذلك بكل شفافية ونزاهة، فالجودة تتطلب تتبع كل الإجراءات التي تحقق الهدف المنشود الذي سبق تعريفه بدقة، تتبع الإجراءات كافة، وتكاليف هذه الإجراءات، ومدى الحاجة إليها، وهنا تدخل بعض المفاهيم مثل تعارض المصلحة، والأمانة، فلا يتم وضع الإجراءات فقط للمحافظة على منصب ليس هناك حاجة إليه، أو منح مزايا لبعض الشركات حتى تحصل على دخل من المجتمع دون وجه حق، الجودة تتطلب كشف ذلك والتقرير عنه بنزاهة. كشفه لمن يهمه الأمر والتقرير عنه لمن يتخذ القرار بكل صدق وتجرد، وإذا لم تكن المؤسسة قادرة على كشف مثل هذا التعارض في المصالح وكشف الخلل في الأمانة عند هذه المستويات التي تتلبس ثياب الموضوعية والتقرير عنها لمن يهمه الأمر، فلن تكون قادرة على تحقيق أهدافها ولو حصلت على رقم التميز الأول في مقياس مؤشرات الجودة العالمية.
الجودة هي القوة الكامنة غير المنظورة التي تقود المؤسسة نحو اكتشاف أخطاء الموظفين في وقتها الصحيح، وأخطاء الأجهزة والآلات في لحظتها المناسبة. وكما أؤكد دوما، فإن الاكتشاف ليس وحده مقياس الجودة، بل التقرير عن ذلك في اللحظة المناسبة لمن له حق اتخاذ القرار، تلك هي الجودة، وذلك هو التحدي الأبرز، ذلك أن المجتمع الوظيفي قد يفقد شجاعته في لحظة التقرير عن الخطأ الذي تم اكتشافه، فلا يتم التقرير عنه لصاحب القرار الصحيح في الوقت لمناسب، على أساس أن هذا الخطأ يحصل لأول مرة، ولن يتكرر، أو على أساس عدم التسبب في ضرر لأحد من الموظفين الكبار أو الصغار، أو على أساس المجاملات فيما بينهم، أو على أي أساس آخر، المهم لا يتم التقرير عن الخطأ أو حدوث الخطر، فيبقى الأمر دون وعي من صاحب القرار أو المصلحة التي تأثرت بذلك، هذا ما لا تستطيع كل مقاييس التميز ولا مؤشرات الأداء أو الرضا قياسه، بل هو كما قلت لكم قوة كامنة في المؤسسة نفسها، في ثقافتها، في نزاهتها، في شفافيتها، وفي مشاعرها. قوة التقرير عن المؤسسة، بل الشجاعة في ذلك، تتطلب أكثر من مجرد معايير، وأبعد من قضية ترتيب في مقياس.
عندما أقول إن الجودة قوة كامنة فإنها -أي القوة- سمة شخصية أيضا، شخصية على مستوى المؤسسة وكل فرد من أفرادها، المؤسسات ذات الشخصية القوية القادرة على تحديد أهدافها وتعريفها وتتبع الأخطاء وتسجيلها والتقرير عنها بشفافية مؤسسة لا تقبل من الأفراد إلا من كان بمثل هذا المستوى من الجودة، فرد يفصح عن أهدافه، وأخطائه والمخاطر في علمه ويرفع التقارير عن كل ذلك بنزاهة. هذه الشخصيات لا تقبل إلا من كان يعمل بمثل قوتها، وهذه المؤسسات طاردة عادة فلا تقبل غير النزيه فيها، لكن إذا انعطبت الشخصية هذه ودخل هذه المؤسسات من ليس لديه القوة الكامنة نفسها في الجودة، والمعارك بين الشخصيات المتنافرة تفقد الجهة توازنها لفترة قبل أن يتغلب طرف على الآخر، قبل أن تتغلب سمات الجودة الشخصية الحقيقة على غيرهم لتبدأ المؤسسة بطرد الأضعف ولو كان الأكثر جودة. وليس لذلك علاقة بمؤشرات الرضا ولا مقاييس الترتيب العالمي، لا حتى عن الاعتمادات المؤسسية والبرامجية. واذا قبلت عزيز القارئ كل هذا النقاش فستدرك فورا لماذا ترتفع الجودة في مؤسسة ما في فترات معينة مع وجود شخصية قيادية في أعلى الهرم، تتراجع وتتراخى في مرحلة أخرى عندما يتغير، فالجودة كما قلت لكم سمة من سمات الشخصية، وليست مجرد ترتيب ومقياس للرضا.
نقلا عن الاقتصادية