الجودة .. غموض المفهوم «2»

30/07/2023 1
د. محمد آل عباس

تحدثت في المقال السابق عن مدى غموض مفهوم الجودة، رغم هذا الغموض فهناك دوما ادعاءات بقدرتنا على قياس الجودة، على أساس أن أي شيء يمكن قياسه يمكن إدارته حسب المقولة المشهورة، وبما أننا نقيس الجودة إذا هناك إدارة للجودة، لكني لا أتفق مع ذلك، فالخطورة تأتي من جانب المفاهيم المجردة التي ليس لها واقع مادي، ولنأخذ مفهوم ضغط الدم كمثال، فنحن ندعي أننا قادرون على قياسه من خلال حركة الزئبق، وللحقيقة المادية البحتة نحن نرى ونلمس ونقيس حركة الزئبق، ولكننا نعتقد أن هناك علاقة سببية بين حركة هذا الزئبق وتدفق الدم في الشرايين، هذه العلاقة "غير الملموسة ولا المشاهدة، ولا المادية" ضغط الدم، هذا التجريد في المقاييس يبعدنا أكثر وأكثر عن حقيقة ما هو ضغط الدم، وهل ما نقوم بقياسه هو فعلا ما نريده أم أننا نقيس أشياء أخرى، ذلك أننا لا نعرف على وجه الحقيقة المطلقة ما الأشياء الأخرى التي تؤثر في حركة المقياس. ولكي لا تضيع الأفكار مني، فالجودة ليست شيئا ماديا يمكن قياسه، فإذا قيل نقيس قوة الصوت أو شدة وضوح الصورة، نقول إن هذه الجودة فقد تلاحظ أننا لم نقم بقياس الجودة إنما وضعنا لها "شرط وجود"، إذا تحقق "قلنا" هناك جودة. فمن وضع تلك الشروط، هناك من يرى بأن رضا العميل هو من يضع شروط الجودة، ولذلك تم بناء مقاييس لا نهائية لتحليل مدى رضا العميل، فإذا تحققت عناصره، تحققت الجودة، فهل هذا صحيح؟

خلال الأسبوع الماضي تشرفت بمناقشة رسالة الماجستير لطالبة قسم المحاسبة في كلية الاقتصاد والإدارة في جامعة القصيم، لقد حاولت الدراسة جاهدة قياس جودة الخدمات التي تقدمها الجمعية السعودية للمراجعين الداخليين، وللعلم فقد كنت شخصيا المدير التنفيذي لهذه المؤسسة قبل نحو عشرة أعوام، ولذلك كانت الرسالة فرصة سانحة لكي أعرف ما هي الجودة التي سعت الدراسة إلى تفسيرها مقارنة بما كنت أفعل حينها، فكأن الدراسة تقييم للذات، لذلك قرأتها بحماس شديد، وناقشت بحماس مماثل. فمثلا بدأت الدراسة بتحديد تعريفات للجودة على النحو الآتي، يعتقد عدد لا بأس به من الباحثين حول العالم أن جودة الخدمات هي الفرق بين توقعات العملاء للخدمة وإدراكهم الأداء الفعلي لها، وتم تعريفها من قبل آخرين بأنها التي تلبي أو تتجاوز متطلبات العملاء الحالية والمستقبلية، وتم تعريفها أيضا وفقا للمعايير الدولية بأنها "الدرجة التي تلبي بها الخصائص المتوافرة في المنتج متطلبات العميل"، وهناك تعريفات أخرى بأنها مقياس لمدى تطابق المستوى الفعلي للجودة المقدمة للعميل مع الجودة التي يتوقعها العميل "المطابقة هي الأفضل". هكذا تصبح الصورة إذا، فهناك متطلبات للعملاء وهناك توقعاتهم، وهناك أداء فعلي. إذا طابق الأداء الفعلي متطلبات العملاء فهناك جودة، "وفقا للمطابقة"، وإذا تجاوز المتطلبات ووصل إلى التوقعات فهذه جودة أيضا "وفقا لرضا العميل"، وإذا تجاوز الأداء التوقعات فما هذا "؟"، وهل هناك حالات يتجاوز فيها الأداء الفعلي توقعات المستخدم؟

اليوم عندما تزور إحدى الجهات "خاصة كانت أو عامة" ويتم تقديم الخدمة يطلب منك الموظف تقييم الخدمة، ثم تأتي الأسئلة مباشرة عن الرضا، إذا كنت راضيا عن الموظف ضع رقم من واحد إلى خمسة، وكذلك إذا كنت راضيا عن الخدمة، أو الزمن أو المكان، كل ذلك من مقاييس الرضا، على أساس أن تحقيق رضا العميل يعني تحقيق الجودة. لكن لنفترض أننا وضعنا شخصا أمام مدخل إحدى الجهات بهدف الإجابة عن الاستفسارات وتوجيه الناس، وفي كل مرة يسأله الناس عن مكان معين يرد عليهم بأدب جم ويحدد المكان مباشرة بإشارة اليد، ثم يطلب التقييم على جهاز أمامه "سيضع الجميع "خمسة" عندما يجب عليهم ذلك، و"واحد" إذا لم يجدوا الموظف، أو لم يعرف الإجابة"، والسؤال الآن ما هي توقعات العملاء، "الإجابة أن يجدوا الموظف، ويجيب بشكل صحيح"، السؤال الثاني كيف نعرف أن الخدمة أعلى من توقعاتهم؟ "هل إذا وضع الجميع خمسة من خمسة" هل هذا يعني أن الجودة في أفضل حال أم أن الجودة أعلى من توقعاتهم؟ والآن لنضع مكتب استعلامات عند مدخل آخر لكنه في الوقت نفسه يعطي كل شخص يسأله فنجانا من القهوة السعودية، ثم يطلب منهم التقييم، ثم نقارن ماذا يحدث من تقييم، وإذا قلنا إن كل شخص قد قام بوضع تقييم خمسة، فهل هذا يعني أن الجودة السابقة "قبل القهوة" كانت أقل رغم أنها كانت (خمسة)، وإذا قلنا إنهما سواء فلماذا تم تقديم القهوة وهل هذا من الهدر؟ وماذا لو نكرر العملية في مدخل جديد وإضافة التمر أيضا. قد يقال إن المنافسة هي السبب وهي الطريق الوحيد لتعزيز الجودة، ولكن لا ترى بأن تفسير المنافسة وفقا لمفاهيم الجودة قد يقود إلى هدر الموارد، فالتركيز على الجودة ورغبات العملاء أفقد الشركات موردها بينما أثبتت التجارب العالمية أن العملاء يتجهون حسب التحولات الرئيسة في التكنولوجيا والابتكار قد غيرت من شكل الصناعة تماما، فالابتكار وليست الجودة هو المحرك، والمخاطر هي المحرك الأساس للابتكار، لا يوجد خطر أكثر رعبا من هدر الموارد.

في المراجعة الخارجية لا يمكننا قياس الجودة من خلال رضا العميل الخاضع للمراجعة، لأن مثل هذا المقياس يؤثر في الاستقلال، وفي اعتقادي أن هذا صحيح أيضا في كثير من الجهات، كالتعليم، فرضا العميل "طالب المعرفة" قد يعني الفشل في التعليم، وفي علم المراجعة نحن نهتم بما يسمى فجوة التوقعات، وهو البحث في الأسباب الكامنة التي تقف خلف توقعات الناس، تتوقع عن الخدمة التي يجب تقديمها، وبين ما نحن قادرون على تقديمه، وهذا الفرق مهم جدا، ذلك أن كثيرا من الناس قد تتوقع أكثر من مما يسمح به النظام، أو الموارد المتاحة، ولولا هذه القاعدة المهمة "فجوة التوقعات" لما استمرت مهنة المراجعة حتى اليوم، لو أنها تتبعت الجودة وفق مفهوم رضا العملاء لكانت قد انتهت مواردها منذ دهر طويل.

 

 

نقلا عن الاقتصادية