ذكر وزير الخزانة الأميركي تيموثي غيثنبر يوم الجمعة 12 مارس 2010م المنصرم في حديثه عن توجهات المراكز المالية الكبرى في العالم، قائلا "إن النظام المالي الأميركي قوي جزئياً لأن شركاتنا تعمل دولياً", محذراً في الوقت نفسه من إنه في حال فشلت الولايات المتحدة في اتخاذ موقف قيادي مقنع فيما يتعلق بالإصلاح المالي، فقد يؤدي ذلك إلى مزيج غير فعال من الإجراءات الدولية. مضيفا أنه "في حال لم تثبت أميركا قدرتها على العمل وإصلاح أسواقها، فستقرر عندها الدول الأخرى اتخاذ أسلوب خاص بها في ما يتعلق بالإصلاح - انتهى -.
لماذا يتحدث المسئول الأمريكي بهذه الصراحة والوضوح الغير معهود! هل هي رسالة تحذير لحلفاء وخصوم بلاده التجاريين على السواء أم أنها رسالة تحذير بأن أمريكا لن تقبل أن تمضي في شراكتها مع أوروبا تحت إملاءات جديدة من المستشارة الألمانية أنجيليا ميركل متهماً بتلميحه شركائه الأوروبيين (الذين يعتبرون حتى عهد قريب ثاني أكبر سوق رأسمالي في العالم) هم مكمن الخطر الرئيسي على الاقتصاد العالمي وليست أمريكا حسب زعمه. وترى السلطات الأوروبية والأميركية انه بدون إصلاح نظمها المالية سيسعى المستثمرون إلى العمل في الدول التي تتبنى قوانين أكثر تراخياً مما قد يزيد المخاطر المستقبلية, وظهر الخلاف بين الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي واضحا هذا الشهر عندما عارضت أمريكا إصدار قوانين جديدة بشأن صناديق الاستثمار الضخمة، وهي قوانين يجري بحثها حاليا في أوروبا.
لكي نفهم عمق الخلاف القائم بين الولايات المتحدة الأمريكية والإتحاد الأوروبي وتلويح الأولى بالتهديد بفسخ العلاقات الإستراتيجية يجب أن نفهم عمق مدى الشراكة التجارية والجيوسياسية بينهما أولاً. معلوم جيدا أن الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي هما خلال نصف قرن مضى طرفان في أكبر تجمع للتجارة البينية والعلاقة الاستثمارية في العالم إذ تجاوزت تدفقات السلع والخدمات والاستثمارات المباشرة 1.3 تريليون دولار في عام 2005م و هذا المبلغ يعني أن أكثر من 3 مليارات دولار يتم إنفاقه في كل يوم على المشتريات عبر المحيط الأطلسي من السلع والخدمات ويحتل الإتحاد الأوروبي المرتبة الثانية في الشراكة التجارية الأمريكية بعد كندا إذ سجل الميزان التجاري في عام 2005 عجزاً بلغت قيمته 122 مليار دولار لصالح الاتحاد الأوروبي أو 16 ٪ من أجمالي العجز التجاري الأميركي. وقد قادت عمليات الاستحواذ والاستثمار المباشر داخل حدود الطرف الأخر بين الولايات المتحدة والإتحاد الأوربي التي بلغت في نهاية عام 2004 م مبلغ 1.9 تريليون دولار (يتألف من 942 $ مليار دولار استثمارات الاتحاد الأوروبي في الولايات المتحدة، ومبلغ 965 مليار دولار استثمارات أمريكية في الاتحاد الأوروبي) إلى جعل الشركات الأميركية والأوروبية على السواء من اكبر المستثمرين في سوق كلا منهما حيث أن حوالي 60 ٪ من الشركات الأمريكية لها تمثيل مباشر في أوروبا والحال ينطبق كذلك على يقارب من 75 ٪ من الشركات الأوروبية المتمثلة بفروعها في الولايات المتحدة. هذه الكمية الهائلة من ملكية الشركات في أسواق بعضها البعض يترجم إلى المليارات من الدولارات من المبيعات، والإنتاج، والإنفاق على البحوث والتنمية إضافة إلى الهجرة المؤقتة للموارد البشرية التي يقدر عددها بنحو 10 ملايين لكل طرف يعملون في الجهة المقابلة من الأطلسي. ومعلوم أن نحو ثلث إجمالي تجارة الولايات المتحدة مع الاتحاد الأوروبي هي في الحقيقة نتاج النشاطات المختلفة لشركاته الدولية وقد نتج جراء ذلك تولد علاقات متينة ووثيقة نشأ عنها جماعات المصالح التجارية النشطة وجماعة اللوبي السياسي التي نشاهدها اليوم حارساً على المصالح المشتركة.
تجاوز في بداية الثمانينيات الميلادية مفهوم التعاون الأمريكي الأوروبي الطموحات العابرة للأطلسي بإحداث مصطلح الشركات الدولية العابرة للقارات (Global Corp) التي تم دعمها سياسياً وبنائها هيكلياً و اقتصاديا بشكل مثير للإعجاب حيث تم تهيئتها بجاهزية عالية لتمثل رأس الحربة في معركة الهيمنة الشاملة على التجارة الدولية وذلك بتطبيق مصطلح ما يعرف بإدارة التحكم بدوائر ومصادر النوافذ الإنتاجية (Supply & Chain Management Control) عبر القارات لتكون بوتقة الاستهلاك بكل رموزها أسيرة تلك الدائرية, معتمدة على عدة محطات إستراتيجية أو ثانوية متعددة الأدوار كان أبرزها البرازيل والهند وأستراليا واليابان وروسيا وجنوب أفريقيا وبشكل يشوبه التحدي والحذر الصين (انقلبت على حلفائها المتربصين ووظفت نظرياتهم في قارة أفريقيا لسهولة بناء المنهج الاقتصادي).
وحيث كان المفهوم الأبرز بل الشريان المحوري في تشغيل تلك الآلة الضخمة هو التمويل المالي فقد عملت الولايات المتحدة الأمريكية على تسجيل السبق الاقتصادي (برزت هنا بوضوح الإعاقة المزمنة لديناميكية الأنظمة الأوروبية) متكئة على إرث سياسي وهيمنة دولية وذلك بإدخال ليونة عالية قل نظيرها في التاريخ الحديث بسن نظم وقوانين حظيت بمظلة القانون الدولي من المنظمات والهيئات الدولية المنطوية تحت الهيمنة الأحادية, وبتشجيع ودعم من السلطتين السياسية والتشريعية في بلادها تبنت بالدرجة الأولى الحركة السريعة الخاطفة في إعادة تدوير رؤوس الأموال في النظام المالي والاقتصادي لإغراء رأس المال العابر للقارات المثقل بالبيروقراطية والفساد ليستقر في دهاليز منظومته الاقتصادية المتنامية محلياً (قوة شرائية هائلة) ودولياً (قبضة الشركات الدولية على عوائد الاستهلاك وفوائض رؤوس الأموال المهاجرة).
في بداية الألفية الثالثة شهدت العلاقات التجارية بين الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي حلقات درامية من الخلافات الدورية و تصاعد التوتر والنزاعات التجارية حيث أن تلك الخلافات يتم في كل مرة بين مد وجزر احتوائها إلا أن وتيرة الخلافات ارتفعت هذه المرة وظهرت للعيان في جولة الدوحة عام 2006م بمطالب قوية من المنتجين فيما يخص الحصول على الدعم و الحماية داخل الحدود التي تنطوي على نزاعات في مجالات عدة منها الزراعة، والطيران، والصلب هذه الصراعات تميل إلى أن تكون دفعت بواسطة الحواجز التجارية التقليدية مثل الدعم، والتعريفات، أو مدخلات التصنيع، حيث كان البعد الاقتصادي للصراع هو السائدة. لقد تناوبت بروكسل وواشنطن منذ ذلك الحين على التراشق التجاري إما بحظر المنتجات كالنزاع على معالجة لحوم الأبقار بالهرمونات والهندسة الحيوية للمنتجات الغذائية أو الصراعات الأخرى التي تنبع من مجموعة من السياسات المتسلقة على هامش الولاء الوطني المتحيز الذي يعكس نتاج اختلاف القيم الاجتماعية والبيئية وأهدافها كما حدث مؤخراَ بطريقة تنم على التعالي المفرط في قضية إلغاء الحكومة الأمريكية لعقد شركة إيرباص الأوروبية المتعلق ببناء طائرات الصهاريج الجوية في أضخم صفقه تسليح في التاريخ الحديث لوزارة الدفاع الأمريكية لصالح شركة بوينج الأمريكية بداعي حماية الحلم الأمريكي.
لقد دأبت أوروبا في ما مضى على السير خلف الولايات المتحدة الأمريكية مكتفية بالجلوس في المقعد الخلفي لتجني قطاف تحالفها الذي آمن لها ضمنياً انطلاقتها نحو قوة اقتصادية حقيقية وجعل منها الحديقة الخلفية للشركات الأمريكية عاملة بمبدأ الطعام الوفير بمعية الصقور خير من الصيام مع النمور, إلا أن تلك الحقبة شارفت على الأزوف بعد مشاهدتها للدماء التي ينزفها شريان الاقتصاد الأمريكي خاصة أنها كانت ضحية ذلك النزيف فقد تم قبيل الأزمة استدراج مؤسساتها المالية بخبث بالغ وتم مكافأة المستثمرين الأوروبيين الذين تجمعوا بعقلية قطيع الأرانب التي تأنس بالدفء في بنك ليمان براذرز ثم أطلقت الحكومة الأمريكية رصاصة الموت دون رحمة على بنك ليمان براذرز ليكون أضخم مؤسسة مالية تشهر إفلاسها على مر التاريخ ذلك أن معظم دائنيه هم من المستثمرين الأوروبيين وبخاصة من الألمان ولو فعلت الحكومة الأمريكية ذلك مع بنك قولدمان ساكس لاهتزت أركان أمريكا قاطبة لا لشيء ولكن لأن معظم دائنيه هم من المستثمرين الأمريكيين. كلنا يذكر المعارضة الشرسة التي قادتها المستشارة الألمانية أنجيليا ميركل ووزير ماليتها في الأشهر الأولى التي تلت الأزمة العالمية في وجه دفع الأموال لإنقاذ البنوك الأوروبية من قبل بروكسل وقالت مقولتها الشهيرة (لن نعطي أموالنا للآخرين بدون مقابل) وقد كانت تعلم مدى تورط المؤسسات المالية الأوروبية المباشر بالأزمة المالية الأمريكية إلا أنها أرادت إيصال رسالتها للحكومات الأوروبية (المقصود هنا بريطانيا والدول التي غرقت خلفها مثل أسبانيا والبرتغال وإلى حد ما, فرنسا التي ستكون مؤسساتها المالية في وضع صعب جداً جراء الأزمة اليونانية) بأن ألمانيا الفاحشة الثراء لن تدفع لكم ماخسرتموه في المؤسسات المالية الأمريكية.
لقد خاضت الولايات المتحدة الأمريكية منذ سبعينيات القرن الماضي نزاعات تجارية عديدة وممارسات شابها التحيز بضغوطً كبيرة في جميع المحافل سواءً على المستوى السياسي مثل روسيا (القمح ولاحقاً إفشال جهودها للعضوية في منظمة التجارة) أو الصناعي مثل اليابان (الميزان التجاري) أو الاقتصادي النمور الأسيوية ( حقوق الاختراع) البرازيل (محاصيل الفاكهة) الإتحاد الأوروبي (تجاري منافس) كندا (الصيد البحري) أو الجيوسياسي مثل المكسيك (الهجرة) أو السياسي الاقتصادي وربما النفوذ الدولي مع الصين، أضف إلى ذلك أن السوق الأمريكية ستشهد في السنوات القليلة القادمة تحولات جذرية قد تقود الاقتصاد الأمريكي إلى جولات طويلة ومكلفة من إعادة الهيكلة المقننة التي قد تقوده إلى الانكفاء على الذات وإعادة دعاية أن المنتج الأمريكي هو روح الولاء للحلم الأمريكي (قد يتم إفلاس أو إغلاق بعض مصانع تويوتا في ولايات الغرب الأمريكي نتيجة الدعاوى القضائية من قبل الهيئات الحكومية المتحيزة للحلم الأمريكي) علماً أن الأمريكان أنفسهم طالما رددو العبارة الشهيرة بأن الولاء يقضي على الإبداع وفي ذلك مفارقة عجيبة، كل هذا وغيره يجعل الارتباك ظاهراَ على محيا وزير الخزانة الأميركي تيموثي غيثنبر فهو يبعث بالرسالة الخاطئة بأن شركاته الدولية المثقلة بالديون والمتعطشة للعمل خارج الولايات المتحدة هي بزعمه تتولى حماية نظامه المالي الداخلي وفي الوقت ذاته يحذر بروكسل من بناء مركزها المالي المستقل (صندوق النقد الأوروبي) أو بناء صناديقها الاستثمارية المستقلة بذاتها خارج منظومته التي تارة يطلق عليها النظام المالي وتارة الاقتصاد الدولي, إن أعظم ما تخشاه الولايات المتحدة الأمريكية اليوم هو نضوب منابع التدفقات الاستثمارية بل صح لك القول إن شئت بالتدفقات النقدية العابرة للحدود التي كانت ولا تزال هي المحرك الحقيقي للاقتصاد الحّر أينما وجد, وهي تدرك أن المال سيتجه صوب وجهة أخرى إلا أنها لازالت تراهن على أن المستثمرين لن يجدوا قوانين أكثر تراخياً كما هو الحال لديها.
لقد أدركت أوروبا الحقيقة المرة بأن مصالحها التجارية بل وأنظمتها المالية على السواء في خطر وقد تكون اليونان مجرد عطسة عابرة في خضم أزمة متزايدة ما لم تبدأ برسم الخطوط الفاصلة بينها وبين السوق الأمريكية التي بدت اليوم أشبه ما تكون بالجندي الذي فقد ساقيه في المعركة و يظن متى وجد من يحمله, أن عقليته دون ساقيه كفيلة بتحقيق النصر و لك عبرة في سوق منازل مدينة ديترويت مولد الحلم الأمريكي التي تباع اليوم بقيمة لا تتجاوز أجرة إقامة ليلة واحدة في إحدى فنادق كازينوهات لاس فيجاس الفاخرة .
قراءة رائعه للاحداث ... ومقال غزير
أشكرك أخي أفلاطون الأسهم ما لمسته من تجربة شخصية أن الناس لاتقرأ الأحداث بشكل دقيق بل إن البعض لا يقراْ أصلاً , ومع ذلك نراه ينتقد صانع القرار على قراراته التي أتخذها نيابة عنه (قد تكون متحيزة ضد مصلحة المستفيد) لأنه ببساطه ترك الأخرين بسبب عجزه وكسله يتخذون القرار نيابة عنه , هذا للأسف حال كثير من مجتمع الأعمال في المنطقة يكفيك أن تنظرفوق أكتاف بعض صانعي القرار لترى الجبل الكبير المحمل بالأنتكاسات التي تتكشف فور مغادرته تصبح مهام خلفه الذي لا يترك وسيلة إعلامية إلا أستخدمها ليبين أنها مشاكل مورثة ليست من صنعه ,,