السوق المالية .. على من يقع اللوم؟

01/01/2023 2
د. محمد آل عباس

في الوقت الذي تتراجع فيه السوق المالية بحدة حيث سجل مؤشر "تاسي" الرئيس نسبة تراجع تتجاوز 9 في المائة، لينهي سلسلة الارتفاعات السنوية التي بدأها منذ 2016، وتعود بنا الذكريات إلى أحداث 2006، لكن ما يحدث الآن مختلف شكلا وموضوعا عن انهيار 2006، فلا حجم السوق المالية هو الحجم ذاته، ولا هيئة السوق هي الهيئة ذاتها، وما تمر به السوق حاليا ليست له المعالجات نفسها في ذلك الوقت.

في 2006 لم يكن هناك عدد كاف من الشركات حيث لم تتجاوز 100 شركة حينها، بينما تنعم السوق اليوم بأكثر من 200 شركة بين سوقين - رئيسة وموازية، وهناك صناديق المؤشرات والصكوك المالية، وكثير من التطور التقني والبنيوي في أنظمة السوق، فهناك حوكمة ملزمة وإعلانات مستمرة ونتائج ربعية، وهناك أيضا عقوبات صارمة جدا، لعلي أجدها فرصة لأشيد بقرارات الهيئة في هذا الشأن، ومنها قرار لجنة الاستئناف في منازعات الأوراق المالية القطعي، القاضي بإدانة شركة للاستثمار، وقد أحاطت الهيئة المستثمرين بأنها ستقوم بتعيين محاسبين قانونيين من الهيئة، لحصر جميع الاستثمارات المقدمة من الشركة، ووضع آلية خاصة لتسييل أصول استثمارات الشركة وإرجاع رؤوس أموال جميع المستثمرين داخل المملكة.

كما صدر القرار في الدعوى الجزائية العامة المقامة من النيابة العامة "والمحالة لها من هيئة السوق المالية" ضد شركة مقرها ـ خارج المملكة - لممارستها عملا من أعمال الأوراق المالية دون الحصول على ترخيص من هيئة السوق المالية، والمتمثل في نشاط تقديم "المشورة" من خلال تقديم توصيات البيع والشراء على أسهم الشركات المدرجة في السوق المالية السعودية، عبر مجموعة على تطبيق التواصل الاجتماعي "واتساب" مقابل اشتراكات مالية متنوعة، وإعلان تقديم خدمتي "المشورة" و"الإدارة" في الموقع الإلكتروني دون الحصول على ترخيص من هيئة السوق المالية. وتضمن القرار عددا من العقوبات عليها.

كما أعلنت الدائرة الأولى للجنة الفصل في منازعات الأوراق المالية أنها أصدرت قرارها في الدعوى المقامة من قبل إحدى المستثمرات في السوق المالية بصفتها الشخصية ضد عدد من أعضاء مجلس إدارة شركة مجموعة محمد المعجل السابقين، وقد قررت الدائرة إلزام المدعى عليهم بتعويض المدعية بالمبلغ المستحق لها.

كل هذه أدلة قاطعة الدلالة على أن الهيئة تراقب وتتابع وتعمل بجهد من أجل حماية المستثمرين، لهذا فليست الهيئة التي كانت في 2006 هي الهيئة اليوم، ولا اللوم عليها سابقا هو اللوم نفسه اليوم. ومع كل هذه الإجراءات والمضامين التي في القرارات، فإن أي احتمالية للتلاعب بالسوق المالية تتضاءل اليوم كأساس لتفسير هذا التراجع الكبير الذي عم السوق المالية منذ أكثر من ستة أشهر، ورغم تحقيق الاقتصاد السعودي أفضل نمو له في العالم وبين مجموعة الدول العشرين، والميزانية تتجاوز التريليون في مصروفاتها، وهناك كثير مما يعد به المستقبل القريب - بإذن الله - فلا يوجد ما يسمى حالة عدم التأكد والغموض التي تقلق المستثمرين، بل إن السوق المالية اليوم هي أفضل منفذ استثماري حالي خاصة مع الركود الذي تشهده السوق العقارية الذي من المتوقع أن يستمر.

يتبقى لدينا سبب وجيه يرتكز عليه الجميع عند تحليلاتهم وهو نفاد السيولة مع توجهها نحو العوائد البنكية خالية المخاطر "نوعا ما" خاصة الودائع الأمريكية، وهروب السيولة بهذا الحجم مؤكد أنه يضر بالأسواق، ولهذا فإن السوق السعودية تواجه المصير نفسه الذي تواجهه الأسواق العالمية، وقد نشرت "الاقتصادية" قبل أيام تقريرا عن الأسواق المالية، حيث شطبت الأسواق كل الأرباح التي تحققت لها طيلة أعوام وبأرقام تهز الاقتصاد العالمي بتريليونات الدولارات، لتقترب مؤشراتها من تسجيل أسوأ أداء سنوي منذ 2008، فبحسب رصد صحيفة "الاقتصادية"، فقد سجل مؤشر "إم إس سي آي" العالمي انخفاضا نسبته 19.4 في المائة في أعلى وتيرة في 14 عاما، وهبط مؤشر "إم إس سي آي" للأسواق الناشئة 22.5 في المائة، وسط تقديرات لبلوغ الخسائر السوقية للأسهم العالمية بين 13 و15 تريليون دولار خلال العام الجاري.

في هذه الصورة نحن مثل الآخرين تماما نعاني ما يعانونه، فتكلفة الفرصة البديلة مرتفعة، ولهذا فإن العوائد في السوق لم تعد تبرر القرار الاستثماري فيها، بل إن احتساب تكلفة الفرصة البديلة يعني أن الاستثمار في السوق المالية خسارة واضحة للعيان، لكن هذا التفسير يعني أن هناك خروجا كبيرا للصناديق الاستثمارية المؤثرة من السوق، ولا دليل على ذلك سوى توقعات المتداولين، فهل خرج كبار المستثمرين من السوق فعلا؟ دليل خروج المستثمرين الكبار المؤثرين من السوق نجده في تغيرات هيكل الملكية، وتغيير كبار الملاك، ولا يوجد دليل كاف على أن التغيرات في هيكل الملكية تسببت في هذا الانخفاض الذي تشهده السوق المالية.

بقي لدينا السؤال نفسه الذي أثير في 2006، فهل الحكومة تبيع أسهمها، مرة أخرى لا يوجد دليل، كما أثبتت الشهور والأيام بعد انهيار 2006، ستثبت الأيام المقبلة أن الصناديق الحكومية لم تقم ببيع استثماراتها في السوق، وأن هيكل الملكية فيها لم يتغير. إذن ما التفسير المنطقي لكل ما يحدث؟

ظاهرة بيع أسهم الاكتتاب بأقل من سعر الاكتتاب في أول يوم تداول ظاهرة ليست محيرة، بل هي الإجابة عن السؤال، حيث توقف المتداولين عن الشراء وقفة تأمل وانتظار وليست سوء تقدير للسهم المكتتب فيه، الجميع يقف كل صباح لتأمل سعر السهم وهو يتراجع مع كل صفقة يقوم ببيعها من فقد صبره وغلبه قلقه وفقا لقاعدة إيقاف الخسائر سيئة السمعة. الجميع ينتظر ذلك المضارب العملاق الخفي الذي سينقذ السوق، وفي ظل غياب صناع السوق، فلا يوجد ذلك العملاق الخفي، فلا توجد لدينا صناديق عملاقة هدفها هو حماية التوازن بين العرض والطلب وحماية السهم من الانهيار، وهذه الصناديق موجودة في معظم الأسواق العالمية، وهي تعمل كمحال الجملة، حيث تشتري وتبيع بالجملة وفقا لمعادلة خاصة تفرضها هيئة السوق المالية، تضمن لها أرباحا معينة بحيث لا يتورط في الاحتكار ولا في صناعة المؤشر، بل الهدف حماية السهم من تراجع غير مبرر. هذا هو حال السوق اليوم، المضاربون كمثل فريق سجلت في مرماه أهداف كثيرة فجأة في منتصف المباراة، وينتظر لحظة عودة الروح إلى الفريق. لكن السوق وهيئة السوق في حال جيدة مقارنة بالماضي.

 

 

نقلا عن الاقتصادية