الاكتناز الوظيفي في عصر التضخم

23/06/2022 0
د. خالد رمضان عبد اللطيف

منذ عدة سنوات، وأنا ألاحظ عن كثب بعض الموظفين الساعين إلى "بحبوحة" الازدواج الوظيفي، وكنت أمازح نفسي قائلاً لعل الأمر يشبه ازدواج الجنسية التي تمنع صاحبها من تولي بعض المناصب الحساسة في بعض الدول ومنها بلدي مصر، والواقع أن العمل في الوظائف المؤقتة لا يقتصر على المداومين في المكاتب، فهناك الملايين ممن يعملون بأكثر من وظيفة من خارج المكاتب، وعلى سبيل المثال، هناك 13 مليون أمريكي يعملون في وظيفتين على الأقل، ويبدو أنه اتجاه ينمو باطراد في عصر البطالة، والتضخم الرهيب، والاقتصاد غير المستقر، حيث يستخدم هؤلاء رواتبهم الإضافية في سداد نفقات المعيشة الأساسية والفواتير الشهرية، لكن، المثير للدهشة هو أن البعض منهم يفعل ذلك من أجل المتعة الشخصية.  

يمكن القول بأن هناك اتجاهًا جديدًا يتنامى لاكتناز الوظائف من قبل أصحاب الدافعية الفائقة للعمل، أو المدمنين على العمل، الذين أنشأت لهم عيادات في الغرب منذ الثمانينات الميلادية من أجل محاولة اقناعهم بأن العمل جزء من الحياة وليس هو كل الحياة، ولهذا، فإن بعض المكتنزين للوظائف لا يعملون لأنهم مضطرون لذلك، ولكن لأنهم يريدون ذلك، وغالبيتهم من المهنيين الحاصلين على تعليم جامعي ممن تتوافر لديهم مهارات سوق العمل، والسؤال: ما الذي أدى إلى ظهور هذا الاتجاه؟، والواقع أن هناك تحول ثقافي بشأن تحديد معايير "المهنة الناجحة"، فقبل ثلاثين عامًا، كان الموظفون يصلون إلى القمة عبر الزيادات والعلاوات الدورية والترقيات الوظيفية، وهو نهج متدرج يكافئ أبناء المؤسسة البارين بمعاش تقاعدي، فقد كانت العلاقة أشبه بزواج كاثوليكي استمر لعقود.

لكن، يبدو أن الصعود للقمة الآن أكثر مخاطرة، فهناك طرق التفافية يسلكها البعض من أجل اقتناص فرص وظيفية، وعلى سبيل المثال، فإن الرؤساء التنفيذيين الذين يخدمون بشكل روتيني في مجالس إدارة العديد من الشركات الأخرى، تسمح لهم مناصبهم بتوسيع نفوذهم خارج نطاق الشركة الخاصة بهم وإظهار مدى انتشارهم في شبكاتهم، بل إنهم غالباً من يضع المعايير، وبالتالي نجد منهم من يتربح بشكل فج لأنه يملك علاقات وعضو في معظم إن لم يكن كل اللجان الداخلية التي يقبض عنها مكافآت مالية سواء شارك أم لم يشارك، لذلك ليس من المستغرب أن يرى الناس في القاع هذا السلوك الإداري، فهذه الرؤية تكفي للاعتقاد بأنهم يريدون أيضًا فرصة الحصول على مزايا الوظيفة الثانية أو الثالثة.  

والحقيقة أن بعض الشركات تشجع الأعمال الجانبية بشكل صريح، معتبرة أن المعرفة المكتسبة من القيام بعمل جانبي يمكن أن تفيد بشكل مباشر في نمو الموظفين وتطورهم، وإذا كانت هذه الوظائف الجانبية "تفيد المجتمع"، فإنها تسلط الضوء على التأثير الاجتماعي الذي يحدثه الموظفون عندما يطلعون عن كثب عن كيفية عمل عالم المال والأعمال، بينما يستفيد أصحاب العمل بشكل مباشر من المعرفة التي يكتسبها الموظفون لديهم من خلال القيام بوظائف أخرى لا يدفعون لهم مقابل القيام بها.  

ولكن، هل اكتناز المهن أمر جيد أم سيئ؟، الإجابة بالطبع معقدة جداً، فبصرف النظر عن الفوائد الواضحة لتوسيع مهارات الأشخاص والشبكات، فإن إحدى الفوائد النفسية المدهشة هي أن تولي وظائف متعددة يمكن أن يحمي احترامك لذاتك، وحتى الفشل في الوظيفة الثانية له علاج، حيث يتمتع البشر ببراعة في التعامل مع الفشل، فكلما زاد عدد الأشياء التي تريد الذهاب إليها، قل ألمها، وعندما يتم قصف أحدها يتنبه الأشخاص للملاحظات النقدية حول أسباب الفشل الوظيفي، ومن ثم محاولة تلافيه في المستقبل.  

الغريب في الأمر هو أن الكدح الوظيفي يجعل الناس أكثر إنتاجية في العمل، وليس أقل كما يعتقد الكثيرون، فقد جدت إحدى الدراسات الاستقصائية أن 69٪ من الأشخاص الذين يشغلون وظيفتين بدوام كامل يشعرون بأنهم أكثر إنتاجية عند القيام بوظائف متعددة؛ حتى أن بعضهم يعتقد أن الأعمال الجانبية تقلل التوتر ولا تزيده، ولا شك أن هناك مبررات نفسية للعمل فوق الطاقة، حيث يتعلم الموظفون مزدوجي العمل مهارات نوعية مثل إدارة وتنظيم الوقت وتحديد أولويات العمل في وظائفهم الأساسية أو الفرعية.  

بالطبع، هناك تكلفة باهظة للعمل المضنى، أبرزها الإرهاق وهذا أمر بالغ الوضوح، إذ أن زيادة عبء العمل وعدم امتلاك القدرة العقلية على التوفيق بين الأعمال المختلفة يقلل من تقدير الموظف لنفسه، خاصة إذا كانت الوظيفة الجانبية تتطلب مهام متعددة، والإنجاز قليل، هنا تكون الخسائر النفسية فادحة، ولكن ربما تكون التكلفة الأكبر هي ما يفعله اكتناز المهنة بهويتنا في العمل، إذ يعد امتلاك هوية عمل قوية أمراً جيداً يمنح الناس إحساسًا بالأمن والشرعية ويساعدهم على تطوير روابط قوية وتعلم الأعراف الاجتماعية. 

ولا شك أن الأشخاص الذين ليس لديهم وظائف رئيسية يعانون من فقدان هذه الأشياء، فكونك حرًا سعيدًا أمر جيد، لكن الهويات تتطلب صيانة، وكلما زاد الوقت الذي تقضيه في الوظيفة الجانبية، كلما تآكلت هويتك مع وظيفتك الرئيسية بمرور الوقت، وبمجرد تآكل الهوية تنفرط الشركات، وعادة، فإن الاكتناز الوظيفي لا يحدث في أي مكان، ولكن هناك طرقًا ذكية للقيام به، وإذا كنت تفكر في الاكتناز كأحد الحلول الجاهزة في عصر التضخم، ففكر في العبء الثقيل، ليس فقط على رفاهيتك الشخصية والعائلية، ولكن أيضًا على مدى قوة معرفتك بوظيفتك الأساسية، وهويتك الوظيفية، لأنه بمجرد انخراطك في هذا الاتجاه، المربح ماديا والمرهق ذهنياً، سيكون من الصعب عليك استعادة رونق شخصيتك الوظيفية الشفافة والعادلة.

 
 
 
خاص_الفابيتا