منظومة الابتكار السعودية ... الواقع والطموح

12/12/2021 0
د. عبدالعزيز بن محمد العواد

 "إن الحرية بالنسبة للمبدعين تتمثل في حرية تجربة الأفكار الجديدة، والمتشككون يصرون على أن الابتكار مكلف لكن أقول إن الابتكار غير مكلف على المدى الطويل بينما ما يكلف هو ضحالة الفكر"، مقولة شهيرة لتوم كيلي من كتاب فن الإبداع والابتكار، نحن نعيش في ظل الثورة الصناعية الرابعة والتي تعتمد في مكوناتها على الذكاء الاصطناعي وربطه بعملية التنمية الاقتصادية المستدامة، فأصبح لزاماً على الحكومات - إلى جانب تعدين الأرض لاستخراج الثروات - تعدين العقول لتوليد الأفكار الإبداعية والحلول الابتكارية، فمكانة الدول في ظل الثورة الصناعية الرابعة أصبحت قائمة على قدر مساهمتها في الإبداع والابتكار، وتحويل منظوماتها الابتكارية إلى تطبيقات عملية قادرة على الاستحواذ على الأسواق والتمكين والنفوذ في ظل عالم متقلب، من يتأخر فيه يكون كالهشيم تذروه الرياح. 

 وقد صدر مؤخراً تقرير مؤشر الابتكار العالمي من المنظمة العالمية للملكية الفكرية  والتي تعرف باسم الويبو (WIPO)  وهي منظمة دولية تابعة للأمم المتحدة تعمل من أجل تعزيز حماية حقوق الملكية الفكرية، ويعتمد التقرير السنوي للمنظمة على مؤشرين فرعيين هما مؤشر مدخلات الابتكار الذي يشمل على ركائز المؤسسات، ورأس المال البشري والبحث العلمي، والبنية التحتية، وتعقيد السوق، وتطور الأعمال، وتحدد ركائزه تمكين جوانب البيئة المؤدية إلى الابتكار داخل الاقتصاد، ومؤشر مخرجات الابتكار من الأنشطة الابتكارية داخل الاقتصاد وركائزه نواتج المعرفة والتكنولوجيا والنواتج الإبداعية التي تعكس القدرات المعرفية من خلال منظومة متكاملة للبحث والتطوير وصناعات ذات قيمة مضافة عالية كثيفة المعرفة.

تقرير 2021م الذي يركز على تأثير جائحة كوفيد-19 في الابتكار العالمي، نتج عن تعاون بين "الويبو"، ومعهد بوتولانس مع شركاء من شركات وأكاديميين يقيم الابتكار في بلد ما بناءً على مدخلاته الابتكارية مثل الإنفاق المحلي على البحث والتطوير والابتكار، والتعليم العالي، والبيئة التنظيمية والبنية التحتية، إلى جانب مخرجات الابتكار مثل الملكية الفكرية والنواتج الإبداعية، بالاستناد إلى 81 مؤشراً مختلفاً في 132 اقتصاداً عالمياً. 

ونستعرض في هذا المقال أهم ما جاء في هذا التقرير فيما يخص السعودية مع الوقوف على أهم نقاط القوة والضعف والتحديات التي تواجه المنظومة الوطنية للابتكار في السعودية،فقد حصلت السعودية على الترتيب (66) عالمياً للعام الثاني على التوالي، والثانية عربياً بعد الامارات، فيما تصدرت سويسرا التصنيف، وحلت السويد في المركز الثاني، والولايات المتحدة الأمريكية في المركز الثالث. وعلقت المنظمة على ترتيب السعودية، بأن أداءها أقل من التوقعات بالنسبة لمستوى تطورها والناتج المحلى الإجمالي لاقتصادها.

وبالنسبة للمؤشرات الفرعية فقد ارتفع المؤشر الفرعي لإنتاج الابتكار من (77) عام 2020 إلى المرتبة (72) عام 2021، وبتراجع مدخلات الابتكار من المرتبة (50) عام 2020 إلى (59) في عام 2021. كما ارتفع ترتيب السعودية في عدد من المؤشرات الفرعية نذكر منها على سبيل المثال، الالتحاق بالتعليم العالي (29)، البحث والتطوير (26)، تصنيف الجامعات العالمي(24)، الوصول إلى تكنولوجيا المعلومات والاتصالات(28)، انتاج الكهرباء (12)، سهولة حماية المستثمرين (3)، القيمة السوقية للناتج المحلي الإجمالي)6(، التجارة والتنويع وحجم السوق (29) حجم السوق المحلي (17).

أما عن نقاط الضعف فقد أبرزها التقرير في عدد من المؤشرات الفرعية بالنسبة لبيئة العمل، حيث حلت السعودية في المركز (129)، سهولة حسم الإعسار (129)، مدفوعات الملكية الفكرية من إجمالي التجارة (122)، صافي تدفقات الاستثمار الأجنبي المباشر للناتج المحلي الإجمالي (119)، نمو إنتاجية سوق العمل (101)، صادرات التكنولوجيا الفائقة (118)، صادرات الخدمات الثقافية والإبداعية (100).

وبتحليل دقيق لما جاء في هذا التقرير نجد أن السعودية تمتلك العديد من نقاط القوة التي تسمح لها بالانطلاق في كل ما يخص الابتكار، فرؤية 2030 من أهم محاور القوة في هذا السياق، وقد أدت المبادرات التي أفرزتها الرؤية إلى اتساع حجم السوق المحلي وتحقيق النمو العالي بالناتج المحلي الإجمالي، كذلك السياسات الاقتصادية الكلية السليمة، بالإضافة الى ارتفاع معدلات الالتحاق بالتعليم الجامعي وجودة الجامعات السعودية مع معدلات إنفاق عالية على التعليم، وقوة البنية التحتية في مجال الكهرباء، ووجود تنمية للتجمعات بالمناطق، والإنفاق العالي على برامج الحاسب الآلي كنسبة من الناتج المحلي الإجمالي. 

وعلى الجانب الأخر يمكن من خلال تحليل المؤشرات التي أبرزت نقاط الضعف في منظومة الابتكار السعودية، اكتشاف أهم التحديات التي تواجه منظومة البحث والتطوير والابتكار، ولعل أبرز أولى هذه التحديات هو وجود ضعف في التنسيق والتعاون بين مراكز البحث والجامعات والوزارات والهيئات الحكومية والقطاع الخاص، علاوة على ضعف دعم الاستثمار في المنظومة وضعف التنسيق والتعاون بين مكوناتها، كما تعاني منظومة الابتكار الوطنية السعودية من تحديات حقيقية ناجمة عن نقص تطوير الموارد البشرية في مجال التقنية وتعزيز كفاءتها وتسارع تسرب الكفاءات المتخصصة والمتميزة. 

 التحدي الثاني وهو التعقيد، فمنظومة الابتكار الوطنية السعودية تتميز بالتعقيد الشديد وتنوع الجهات والأطراف الفاعلة العاملة ضمن المستويات المختلفة، فتتشكل منظومة الابتكار الوطنية من هيكل متعدد الطبقات يشمل مجلس الوزراء والوزارات الحكومية وغيرها من الجهات التنفيذية والتشريعية، ثم مجموعة من الجهات الفاعلة مؤسسات البحث والتطوير، وسطاء نقل التقنية، الشركات المحلية، ملاك التقنية العالميون، من أجل خدمة القطاعات المستهدفة وهى الطاقة، والخدمات اللوجستية، والتعدين، والصناعة، ولعل أبرز ما اتخذته الحكومة السعودية من خطوات لمواجهة هذا التحدي هو تشكيل اللجنة العليا للبحث والتطوير والابتكار في مارس 2021م، من أجل تنمية قطاع البحث والتطوير والابتكار في السعودية، وترتبط بمجلس الشؤون الاقتصادية والتنمية، ويرأسها رئيس مجلس الشؤون الاقتصادية والتنمية، ثم انشاء هيئة تنمية البحث والتطوير والابتكار، والتي تأسست بقرار مجلس الوزراء السعودي في يونيو 2021م، من أجل حوكمة البحث والتطوير والابتكارن وتحقيق درجة من التنسيق بين عناصر المنظومة، ولسد الفجوات الناشئة 

من عدم وجود الصلاحيات الكافية لإقرار إطار الحوكمة لمنظومة الابتكار الوطنيةالسعودية، واللازم لمواءمة السياسات وتنفيذ الخطط وتفعيل التشريعات التي تصب في مصلحة المنظومة بشكل عام، مما سينعكس على دعم الاقتصاد الوطني لمشروعاته البحثية لتحقيق مستهدفات رؤية السعودية  2030.

 التحدي الثالث وهو دور وسطاء نقل التقنية في السعودية الذي يتسم بالضعف الشديد، حيث يواجه وسطاء نقل التقنية في السعودية تحديات ينبغي معالجتها للارتقاء بالمنظومة، إذ تشكو المنظومة من محدودية انتشار وتأثير مكاتب نقل التقنية، وضعف كفاءة الحاضنات والمسرعات من حيث مواءمة أنشطتهم ومواقعهم مع متطلبات القطاع الصناعي، وضعف قدرات ومخرجات واحات نقل التقنية، ولأهمية مكاتب نقل التقنية والحاضنات والمسرعات وواحات التقنية في منظومة البحث والتطوير، لذا فمن الضروري العمل على تحسين دورهم وزيادة فعاليتهم من خلال زيادة عدد مكاتب نقل التقنية عن طريق إنشاء مكاتب جديدة في عدد من الجامعات المحلية، وإتباع أفضل الممارسات العالمية التي تسهم في اختيار مواقع الحاضنات بالقرب من التجمعات الصناعية لتعظيم الإنتاجية والاستفادة من الخبرات الدولية لزيادة القدرات في واحات التقنية في السعودية من خلال تحفيز الشركات العالمية على إنشاء مراكز بحث وتطوير في أودية التقنية المحلية وإنشاء مجمعات ابتكارية موجهة للصناعات الرئيسية.

وختاماً فإن رؤية السعودية 2030 والتي اعتمدت في عدد من مكوناتها على الابتكار والإبداع، ليس أمامها خيار بديل مع متطلبات العصر الحديث بتحدياته وفرصه الكثيرة إلا أن تولي اهتماماً كبيراً أكثر من أي وقت مضى بمنظومة البحث والتطوير والابتكار لديها، والسعي لتحويلها إلى نظام وطني فعال ومتطور، وهي أيضاً مطالبة  بتعزيز نظرتها للابتكار والتكنولوجيا فالعالم في سباق محموم  لتحقيق الرفاهة لشعوبه،  وإذ تفيد معظم المؤشرات العالمية أن الدول التي حققت مستويات مرتفعة من النمو الاقتصادي والاستقرار السياسي والتوازن الاجتماعي قد ارتكزت على إحداث طفرة نوعية في مجالات التعليم والبحث والتطوير والابتكار وتنمية تقنية المعلومات.

 

 

خاص_ألفابيتا