ما زال اقتصاد العالم يشكو من مضاعفات الجائحة، ولا يبدو أن هذه المضاعفات ستنتهي قريبا، آخر هذه المضاعفات هي أزمة سلاسل التوريد العالمية، والتي تهدد الآن بشكل حقيقي نمو الاقتصاد العالمي. فتراكمت السلع في الموانئ، وتضاعفت أوقات الانتظار فيها، كما زادت أسعار الشحن عشرة أضعاف ما قبل الجائحة، كل ذلك أدى إلى نقص حاد في البضائع حول العالم في الربع الأخير من السنة، وهو الربع الذي يشهد شراء الهدايا للأعياد، إضافة إلى مواسم الشراء من يوم العزاب في الصين، إلى الجمعة السوداء في الولايات المتحدة، إلى يوم الصناديق في بريطانيا. هذه المواسم التي كانت تشكل ضغطا رهيبا على سلاسل التوريد العالمية عندما كانت بصحة جيدة، قد تتسبب في شلل حركة السلع هذا الربع مع الوضع الراهن لسلاسل التوريد.
وخلال العقود الماضية، بُنيت سلاسل التوريد على مبادئ «الرشاقة»، وذلك بزيادة كفاءة هذه السلاسل بأكبر قدر ممكن واختصار أوقات الانتظار عند الموانئ وتسريع فحص ونقل البضائع إلى المستودعات. كل ذلك كان يتم بشكل متناغم ومدروس وطورت لأجله أنظمة معقدة تقوم بتحسين أداء الأنظمة اللوجيستية بشكل غير منقطع. ولكن زيادة كفاءة سلاسل التوريد بهذا الشكل أفقدها المرونة، حيث أصبحت غير قادرة على تحمل التغيرات التي تطرأ على العالم، حتى أصبح أي خلل يحدث في ميناء في أقصى الشرق يؤثر على مصانع ومتاجر في أقصى الغرب. ولعل أقرب مثال على ذلك ما حدث في قناة السويس قبل أشهر، وهو معبر مائي واحد، أثر إغلاقه على آلاف المصانع والمتاجر حول العالم.
وقبل الجائحة، تأثرت سلاسل التوريد بعدد من الأحداث، كان منها الحرب الاقتصادية بين الصين والولايات المتحدة، وما صاحبها من رسوم جمركية بين القوتين الاقتصاديتين، إضافة إلى المناوشات بين أميركا والاتحاد الأوروبي لذات السبب. كما تأثرت حركة السلع في أوروبا بخروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي، وأصبحت السلع تقف لأيام في ميناء الدوفر البريطاني بعد أن كانت تعبر دون أي انتظار قبلها.
وجاءت الجائحة لتفرض المزيد من العراقيل في طريق سلاسل التوريد، كان أولها اختلاف سلوك المستهلكين خلال الجائحة، فزادت الطلبات على السلع الإلكترونية مع تحول الموظفين للأعمال من منازلهم فيما قللت مصانع الرقائق الإلكترونية إنتاجها، مما سبب أزمة خانقة في الرقائق الإلكترونية خلفت وراءها أزمات من مصانع السيارات حتى الأجهزة المنزلية. ولم يكن ذلك هو الأثر الوحيد لسلوك المستهلكين، فقد ساهمت حزم التحفيز الحكومية في إعادة الطلب لمستويات ما قبل الجائحة، إلا أن سلاسل التوريد لم تستطع مجاراة هذا التغير المفاجئ، فما زالت العديد من الموانئ تعمل ضمن قيود احترازية تحتم عليها عددا محددا من العمال، وقد أغلقت الصين ثالث أكبر ميناء في العالم في أغسطس (آب) الماضي بعد اكتشاف حالة إصابة بفيروس «كورونا» تأثرت على أثره سلاسل التوريد حول العالم. كما أن قطاع المستودعات لم يستطع إعادة توظيف العمال بنفس الرتم. وقد بلغ عدد الوظائف الشاغرة في قطاع المستودعات في الولايات المتحدة في شهر يوليو (تموز) مستوى تاريخيا بلغ 490 ألف وظيفة! كما وصل عدد الوظائف الشاغرة في قيادة شاحنات النقل نحو 80 ألف شاغر!
وليس بغريب أن تلقي أزمة الطاقة بظلالها على سلاسل التوريد، حيث أغلقت العديد من المصانع حول العالم بسبب شح الطاقة، كما أن شركات الشحن نفسها عانت خلال الفترة الماضية من الضغوط الدولية بسبب دورها في تلويث البيئة، وهو ما جعلها تعاني للحصول على تمويل لنشاطاتها المتعثرة!
إن سلاسل التوريد هي عصب التجارة العالمية وعنق الزجاجة في نمو الاقتصاد العالمي في مرحلة ما بعد الجائحة، وهي تتأثر بأي تغير في العالم. ومن الواضح أنها وبشكلها الحالي لا تتناسب مع المرحلة المستقبلية للعالم، وقد تشهد تغيرات كثيرة خلال السنوات القادمة، إلا أن وضعها قد يزيد سوءا قبل أن يتحسن، فلا يتوقع لها التحسن قبل أقل من ستة أشهر، وقد تستمر أزمتها حتى عام 2023. وآثار هذه الأزمة واضحة للعيان، وإن لم يتم تدارك هذه الأزمة، فقد تكون أحد العوامل التي تساهم في زيادة التضخم، الذي بدأت بوادره تلوح في الأفق!
نقلا عن الشرق الأوسط