لا تستغنِ عن ردائك القديم

14/07/2025 1
د. عبدالله الردادي

عند إطلاق الهواتف الذكية الجديدة لشركات مثل «أبل» و«سامسونغ»، لا تعرض هذه الشركات هواتفها بشكل منفصل، بل تقدمها بوصفها بوابة إلى عالم متكامل من التجربة والتناسق، فعلى سبيل المثال، «الآيفون» لا يُعرض وحده، بل يأتي مع ساعة ذكية، وسماعة عازلة للصوت، وخدمات سحابية وموسيقية، ويُشرح خلال ذلك التكامل بين هذه المنظومة وحواسيب «أبل»، هذه الطريقة للعرض ليست مجرّد حيلة تسويقية، بل تجربة متكاملة تمس أسلوب الحياة، والذوق، بل وحتى الهوية! واتساق كل قطعة مع الأخرى في اللون والتصميم وسلاسة الاستخدام، دعوة ضمنيّة للمستهلك بشراء جميع هذه القطع، وإلا فإن شراء واحدة منها دون الأخرى يقتضي عدم الكمال، كل ذلك دون النظر إلى الدافع الأساسي للشراء وهو الحاجة إلى المنتج نفسه، وتستغل الشركات بهذا الأسلوب ما يسميه علماء السلوك الاقتصادي «تأثير ديدرو».

ويعود هذا المصطلح إلى مقال قصير كتبه الفيلسوف الفرنسي دنيس ديدرو عام 1769، بعنوان «الندم على التخلص من ردائي القديم»، ويروي ديدرو خلال المقال أن حصوله على هدية عبارة عن رداء فاخر غَيَّرَ نظرته إلى جميع ما يملك من أثاث ومقتنيات، فبينما كان راضياً بما لديه من بساطة وراحة قبل الهدية، بدا الرداء الجديد غريباً وسط ما يملكه من مقتنيات متواضعة، وهو ما أشعره بضرورة شراء مقتنيات تتناسب مع هذا الرداء الفاخر، وسرعان ما وجد نفسه في دوامة من ابتياع مقتنيات ليس في حاجة فعلية لها، ولكنها تتناسب مع ردائه الجديد، وانتهى به الأمر بإنفاق أمواله على ما لا حاجة له به، ساعياً إلى الكمال بين مقتنياته الجديدة الفاخرة.

هذا التأثير لا يزال حياً في أساليب الشركات الكبرى، لا سيما تلك التي تزعم أنها تبيع أسلوب حياة وهوية متكاملة، لا منتجات فحسب، ويلاحظ ذلك في سلوك شركات مثل «إيكيا» التي تظهر لك جمال التكامل بين قطع إثاثها، وشركات الأزياء التي تُضفي لمسات تكاملية بين قطع ملابسها لتظهر بشكل أفضل عند شرائها معاً حتى أصبح من المعيب لدى البعض أن يلبس ملابس من علامات تجارية مختلفة.

وتدرك الشركات أن ما يشتريه المستهلك ليس هاتفاً أو أريكة أو معطفاً فحسب، بل شعور بالتماهي مع صورة أو نمط أو طبقة اجتماعية، مستغلّة رغبة بشرية في أن يكون كل ما يحيط بالإنسان متسقاً مع ما يرتديه ويقتنيه، ويُقنع المستهلك من خلال اللعب على وتر الهوية الشخصية وتشكيل الذات بأن اقتناء منتج معين هو تعبير عن شخصيته؛ فالمقتنيات ليست للحاجة، بل هي بيان بصري يعبّر عن ذوق الشخص وانتمائه، كما تستغل العديد من الشركات رغبة الإنسان في الاتساق الاجتماعي؛ فالمظهر الخارجي يعكس موقع الإنسان في شبكة علاقاته، ويجعله متماشياً مع مكانته الاجتماعية التي يطمح لها.

ويقع المستهلك بعدها ضحية ما يسمى «تحيّز التكلفة الغارقة»، فهو لا يستطيع التوقف بعد شراء كل هذه المنتجات، فحينها سيشعر بأن كل ما أنفقه سابقاً لا داعي له، فيستمر في الإنفاق لحماية قراراته وخياراته السابقة، وبالطبع إذا أضيف على ذلك الرغبة في شراء الجديد لمجرّد أنه جديد يصبح هذا المستهلك هو النوع المفضّل لدى الشركات التي تستطيع إقناع المستهلكين بأن الجديد دائماً أفضل.

إن إدراك هذا التأثير هو الخطوة الأولى نحو التحرر منه، وعلى الرغم من أن هذه الديناميكيات النفسية ليست سلبية بطبيعتها، فإنها تصبح خطرة حين يُستدرج الإنسان إلى الإنفاق بدافع التناسق والسعي إلى الكمال لا بدافع الحاجة، ويدخل حينها في حلقة مفرغة لا تنتهي من الشراء والشعور بالنقص ومن ثم الشراء مرة أخرى، وليست هذه دعوة إلى عدم الشراء، ولكنها دعوة للسؤال عن دافعه، فهل الدافع للشراء هو الحاجة؟ وهل ما يبحث عنه المستهلك هو المنتج؟ أم الثناء من المجتمع؟ أم الشعور الداخلي بالرضا؟ وهل ما زال المنتج القديم يفي بالحاجة؟ وهل هناك ضرورة لأنْ تكون جميع مقتنيات الشخص من العلامة التجارية نفسها؟ طرْح هذه الأسئلة قد يقي المستهلك الوقوع ضحية الأساليب النفسية للشركات، حتى لا يندم لاحقاً على ردائه الجديد، كما فعل ديدرو.

 

 

نقلا عن الشرق الأوسط