جائزة نوبل هذا العام غير تقليدية من ناحيتين: الأولى: الناحية الأكاديمية فهي جاءت من ناحية تطبيقية بعد أن تلقى علم الاقتصاد والاقتصاديون لوم بعضه على الأقل مبررا، فمثلا كانت هناك مبالغة في توظيف الاقتصاد الرياضي في محاولة لشرح نظريات مجردة، ومن ناحية أخرى: الجائزة وليدة السياق الاجتماعي الاقتصادي إذ حدث تحول حثيث من الاقتصاد الكلاسيكي الجديد نحو اقتصاد يميل نحو دور أكثر للحكومات وأقل ثقة في السوق. جائزة هذا العام جاءت أيضا مناصفة بين ديفيد كارد من جهة وجاشوا إنقرست وقيدو أمبنز من جهة أخرى لموضوعين مختلفين، لكنهم متلاقون في الناحية التطبيقية والاعتماد على تجارب بناء على عينات من الواقع. وبالتالي الابتعاد بمسافة عن التوسع في النظريات المجردة ومحاولة إثباتها بالرياضيات الاقتصادية.
ديفيد كارد كندي الأصل، لكن تعليمه كان في أمريكا ويدرس الاقتصاد في جامعة كاليفورنيا - بيركلي، مختص في اقتصادات العمال. تركيزه على التطبيق قاده إلى تحدي النظريات التقليدية في الأجور والمساواة والقوى الاجتماعية والاقتصادية التي تؤثر في المهن قليلة الأجر. شريكه في الأبحاث كان ألن كروقر الذي توفي في 2019 والجائزة عادة لا تمنح لمن توفي ولذلك كرر ديفيد ذكر مساهمته وأن الجائزة كادت تكون مناصفة. العقلية السائدة ونظريا مقبولة: أن ارتفاع الحد الأدنى في الأجور يقود إلى توظيف أقل لكنه توصل إلى نتيجة مختلفة على إثر دراسة تطبيقية لموظفي شركات المطاعم السريعة القريبة من حدود ولايتي بنسلفانيا ونيوجيرسي، إذ رفعت ولاية نيوجيرسي الحد الأدنى من الأجور بينما بنسلفانيا لم تقم بذلك، جاءت نتيجة الدراسة التطبيقية أن رفع الحد الأدنى للأجور لم يؤثر سلبا في نمو التوظيف وربما أسهم في ارتفاعها في نيوجرسي. تدريجيا لاقت نتائج الدراسة طريقها إلى دوائر صنع السياسات.
ركز أغلب دراساته على محاولة فهم الوظائف الدنيا ولماذا ينجح البعض ويفشل آخرون، وكيف نفرق بين الأسباب المؤسساتية والأسباب التي تتعلق بالأفراد أنفسهم؟ دراسته الأولى في الثمانينيات ركزت على اقتصادات الهجرة وتطبيقها على المهاجرين الكوبيين في ولاية فلوريدا وتوصل إلى أن هجرة الكوبيين الكبيرة في الثمانينيات لم تكن مؤثرة في سوق العمل ربما بسبب تجربة فلوريدا في التعامل مع الهجرات، وأيضا: بسبب تحسن الحالة الاقتصادية. لكن أيضا توصل إلى أن قليلا من الجيل المهاجر الأول، خاصة قليلي التعليم لم يحصل على أجر يعادل السكان الأصليين لكن أبناء المهاجرين استطاعوا تعويض نقص أجور أهلهم لاحقا وبقوة.
في الأعوام الأخيرة ركزت أبحاثه على جوانب أخرى في العمل والحياة الاجتماعية بتوظيف أدوات التحليل الاقتصادي، فمثلا: كيف تؤثر معرفة موظف لراتب زميله على رضاه الوظيفي، والعلاقة بين نتائج المباريات الرياضية والعنف الأسري، ونقص أبناء الأقليات وذوي الدخل المحدود في المدارس التي تعنى بالموهوبين في أمريكا. كان شاهدا مع جامعة هارفارد ضد اتهامات بأنها تمارس عنصرية ضد قبول الطلاب الآسيوين. لعل الأهم أنه كما ذكر أحد المعلقين الاقتصاديين أن الطبيعة أحيانا وتغيرات السياسة العامة تشابه التجارب في الحياة الطبيعية وأن جائزة هذا العام أثبتت أنه بعيدا عن النظريات هناك تجارب اقتصادية تفيد المجتمع. في العمود المقبل سأتحدث عن النصف الآخر من الجائزة.
نقلا عن الاقتصادية