آثار الأتمتة في التوظيف والبطالة

23/08/2021 0
عبد الحميد العمري

أثبتت تجارب أسواق العمل عالميا طوال الخمسة عقود الماضية أن زيادة التغلغل التكنولوجي في الأسواق انعكست سلبا وما زالت على فرص العمل أمام الموارد البشرية بالانكماش، وتسببت أيضا في الوقت ذاته في ارتفاع معدلات البطالة، مع أهمية التأكيد على إيجابياتها لأرباب العمل بخفض تكاليف التشغيل والإنتاج، وزيادة كل من الإنتاج والعوائد على رأس المال. ونظرا لما لا تزال تحظى به الاقتصادات وأسواق العمل من مرونة، رغم انحسارها خلال الثلاثة عقود الزمنية الأخيرة، إلا أن ولادة كثير من المهن والوظائف عوضت جزئيا الخسائر التي لحقت بالموارد البشرية على مستوى الوظائف المفقودة، إما لمصلحة التقنيات والآلات الحديثة، أو لانتهاء الحاجة إليها واختفائها بصورة نهائية، وهو رهان تضيق أمامه الطرق مستقبلا بصورة تدريجية فترة بعد فترة، ويزيد من ضغوطه ارتفاع أعداد مخرجات التعليم والتدريب، خاصة في الدول التي لا تزال تتمتع بمعدلات نمو سكانية مرتفعة، يتركز أغلبها في الدول النامية.

محليا، قد لا تبدو هذه الظاهرة بتلك الصورة التي توجد في الأسواق الخارجية، بل قد تكون الآثار إيجابية في عديد من الحالات، قياسا على زيادة اعتماد سوق العمل المحلية على خدمات العمالة الوافدة بنسب مرتفعة، حيث بلغت مساهمة العمالة الوافدة 77.3 في المائة من إجمالي العمالة في القطاع الخاص بنهاية النصف الأول من العام الجاري "كانت قد بلغت 90.1 في المائة بنهاية 2009"، وبحال ذهبت الوظائف القائمة أو المتوقع ولادتها إلى الموارد المواطنة أو بزيادة الاعتماد على التكنولوجيا، فكلا الأمرين يحمل فوائد اقتصادية أكثر من أي عامل آخر، وهو ما ظهر بصورة جلية في القطاع الحكومي، حيث انعكست إيجابيا زيادة اعتماد أغلب الأجهزة الحكومية على التقدم التكنولوجي والتطبيقات الحديثة، برفع كفاءتها التشغيلية بصورة لافتة جدا، ووفرت كثيرا من الموارد والجهد على المستفيدين من مواطنين ومقيمين على حد سواء، بل كانت واحدا من أهم وأبرز العوامل التي أسهمت في رفع كفاءة الجهود والتدابير التي تم اتخاذها في مواجهة تداعيات تفشي الجائحة العالمية لفيروس كوفيد - 19، ووضع المملكة في مقدمة الدول التي نجحت في التصدي لتلك التداعيات القاسية، وأسهمت بدورها في تسريع وتيرة التعافي الاقتصادي لاحقا، ولا تزال تؤدي أدوارها الإيجابية المتصاعدة في رفع كفاءة الأداء الحكومي على المستويات كافة.

كما لا يعني ما تقدم أن هذه التطورات إيجابية في العموم على الاقتصاد والسوق، بل قد تأتي في جوانب محدودة، عكس ذلك بحال وجد أن الموارد المواطنة هي المتضرر الأكبر من هذا التغلغل التكنولوجي، وكي لا يفقد الاقتصاد مكتسبات هذه التطورات التكنولوجية المهمة، مقابل الاعتبارات الرئيسة لأهمية المحافظة على فرص الموارد البشرية المواطنة، فقياسا على ما تحظى به السوق المحلية من مرونة عالية بتوافر مئات الآلاف من الوظائف التي تشغلها العمالة الوافدة، فلا بد من زيادة إحلال العمالة المواطنة في تلك الوظائف، وزيادة تركيز برامج التوطين على هذه المسارات الآخذة في الاتساع، ويتوقع أن تتوسع أكثر في منظور الأعوام المقبلة، قياسا على التغيرات العملاقة الجاري إحداثها على هيكل الاقتصاد الوطني، وصولا به إلى مستهدفاته النهائية في نهاية 2030، بمشيئة الله تعالى.

يمكن التأكيد أن عديدا من النشاطات الاقتصادية المحلية، بدأ السباق في هذا المضمار منذ عدة أعوام، من أهمها القطاع البنكي المحلي الذي شهد خلال الأعوام القليلة الماضية بصورة لافتة تقدما كبيرا من حيث زيادة اعتماده على التقنية المتقدمة، سجلت قفزة قياسية خلال 2016 حتى منتصف 2021 بنحو 217 في المائة "ارتفاع أعداد نقاط البيع"، قابله انخفاض أعداد الفروع العاملة للمصارف بنسبة 4.7 في المائة خلال عام ونصف العام، وانخفاض أعداد العمالة "مواطنين، وافدين" في القطاع بنسبة 7.1 في المائة خلال 2016 - 2020، بينما بلغت نسبة انخفاض العمالة المواطنة في القطاع خلال الفترة نفسها نحو 2.3 في المائة، وكل هذا بلا شك يزيد من التحديات على مستوى سوق العمل المحلية بأخذ هذه المتغيرات على نطاق أوسع، مضافا إليها العوامل الاقتصادية العالمية غير المواتية الناتجة عن تفشي الجائحة العالمية لفيروس كوفيد - 19، التي أسهمت مجتمعة في ضعف معدلات نمو الوظائف، وتسببت في ارتفاع معدلات البطالة على مستوى جميع أسواق العمل حول العالم، ومنها بالطبع سوق العمل المحلية.

إنما لتوافر أكثر من 2.0 مليون فرصة وظيفية ملائمة وذات دخل جيد تشغلها العمالة الوافدة "يتجاوز عدد الفرص الوظيفية في القطاع الخاص التي يشغلها عمالة وافدة 6.0 ملايين فرصة عمل"، بما يؤكد توافر مرونة كافية جدا للتكيف مع هذه المتغيرات والمستجدات الآخذة في التنامي في سوق العمل المحلية، التي تتيح مجالات أوسع للاستفادة اللازمة من التقدم التكنولوجي الراهن، وفي الوقت ذاته التوسع بصورة أكبر على مستوى برامج التوطين، وبذل العمل المتكامل على إيجاد التوازن اللازم، الذي يكفل المحافظة على مكتسبات الاقتصاد الوطني من كلا الأمرين "زيادة العامل التقني، زيادة التوطين".

تصحيحا لما قد يأخذ إطارا عاما لرؤية أوضاع سوق العمل المحلية، والنظر إلى انضمام العوامل التكنولوجية كمنافس آخر بجانب العمالة الوافدة كمنافس قديم العهد، وأنها كلها تقف مجتمعة كمنافس للموارد البشرية المواطنة، يمكن التأكيد أن نجاح برامج التوطين في المبادرة بالتحرك سريعا إلى مواقع أكثر كفاءة وحيوية ومرونة والأهم من كل ذلك قوة وجدية أكثر، يمكنه - بمشيئة الله وتوفيقه - أن يغير بالصورة المناسبة المعادلة كاملة، وتجييرها كمتغيرات داعمة لزيادة التوطين وفرص العمل المناسبة أمام الموارد البشرية المواطنة.

 

نقلا عن الاقتصادية