لا أحد ينكر جهود وزارة الموارد البشرية والتنمية الاجتماعية في تحقيق مستهدفات السعودة وإسهامها في مكافحة البطالة والتوسع في دائرة توظيف السعوديين. وفي الحقيقة، فقد تحسن الخطاب بشكل واضح ومميز في الأعوام الأخيرة. وبعدما أمضينا أعواما عجافا نتحدث عن سعودة سوق الخضار ومحال البقالات، أصبحنا اليوم نتحدث بصدق عن سعودة المهن الطبية والهندسية والمحاسبة بتنوعها، وأي نقاش جاد حول هذا المشروع المميز جدا، يجب أن يؤخذ على أساس السعي المشترك نحو تعزيز فرص النجاح لهذا المشروع، وأيضا التغلب على الصعوبات التي تواجهه وتواجه أبناءنا في دخول هذه المهن.
وقد عانت الجامعات، ولم تزل تعاني، تساؤلات مطروحة باستمرار عن عدم المواءمة مع سوق العمل، رغم أن هذه التهم لا يقوم عليها دليل علمي، بل هي مقولات صحافية مدعومة بآراء متحيزة لتبرير عدم استقطاب الشباب السعودي لسوق العمل. ففي الوقت الذي يتلقى فيها طلابنا أفضل تعليم وفق أحدث مفاهيم، كانت الشركات والمؤسسات تستقطب الأجانب في هذه المهن لأسباب لا يسع ذكرها هنا، لكن ليست لها علاقة بالتأهيل العلمي. فقد أعلنت الهيئات المعنية بهذه المهن أرقاما تشير إلى عدد الأجانب في هذه التخصصات، كما صرح بعضها عن وجود تزوير في الشهادات العلمية. وهذا يقدم دليلا حول الشك في مصداقية القول بعدم ملاءمة مخرجات التعليم مع متطلبات السوق.
فالسوق في الحقيقة هي التي لا تريد المواءمة، بل تستقطب غير المؤهلين. وما يؤكد هذه النتيجة اتجاه وزارة الموارد البشرية عند توطين المهن إلى طلب إثبات الانضمام إلى إحدى الهيئات المهنية قبل احتساب الموظف السعودي ضمن السعودة. وسأكون شديد الحذر في التعبير هنا، حيث لم أجد النص النظامي الذي يعينني على توضيح قرار الوزارة، لكن استقراء الحالات التي عرضت علي تبين هذا. لذلك، فإن طلب الوزارة التحقق من المؤهل من خلال العضوية المهنية قبل الاعتراف بنسب السعودة، دليل قاطع على أن الأسواق هي التي تتلاعب ولا تريد المواءمة مع مخرجات التعليم العالي.
وإذا كان هذا واضحا بشكل جلي، فإن ما يدعو إلى الدهشة أن الوزارة نفسها غير قادرة على المواءمة مع مخرجات التعليم، والدليل عندي ما تفعله الوزارة الآن بشأن مخرجات كليات الأعمال، التي يتضح أن الوزارة تتعامل مع المنشأة وليس مع التخصص والمهنة نفسها. فمن خلال استقراء حالة توطين مهنة المحاسبة مثلا، فإن كل من يعمل في تخصصات المحاسبة يطلب منه أن يثبت عضويته في هيئة المحاسبة والمراجعة، وهذا لا معنى له إلا أن الوزارة لم تراع معنى بكالوريوس المحاسبة الذي يحصل عليه الطلاب في الجامعات. فهذا التخصص لا يخدم فقط مهنة المحاسب القانوني، التي تشرف عليها هيئة المحاسبة والمراجعة، بل يخدم تخصصات أخرى عديدة، من مثل تخصص المراجعة الداخلية، وتخصص المحاسب الإداري، وتخصص الضرائب والمراجع الحكومي، وتخصصات المحاسبة الحكومية، وغيرها مما لا علاقة لهيئة المحاسبة والمراجعة به. وسبق أن أوضحت هذا في لقاء مطول مع وكيل الوزارة. ورغم تفهمه الوضع، لكن لم يحدث أي تغيير في المسار، وبقي إثبات العضوية محصورا في هيئة المحاسبة والمراجعة.
ونتيجة هذا الوضع، فمن المدهش حقا أن تطلب مؤسسة مهنية مختصة بإدارة المخاطر أن يقوم موظف لديها مختص بإدارة المخاطر حاصل على درجة البكالوريوس في إدارة الأعمال بالتسجيل كعضو في هيئة المحاسبة والمراجعة، بينما لا علاقة له بها ولا علاقة لها به. إن هذا يجعلنا نتساءل بشدة عن معنى المواءمة بين مخرجات التعليم وسوق العمل، ومن فعلا يحدد ذلك؟ وما القاعدة؟ وإذا كانت مهنة مثل المراجعة الداخلية تنص جميع مواثيقها على أنه يجوز لكل حاصل على درجة البكالوريوس، وفي أي تخصص كان، أن ينضم لهذه المهنة. وإذا كانت المملكة قد اعترفت بهذه المهنة وخصوصيتها واستقلالها عن مهنة المحاسبة، فخصصت لها جمعية مهنية مستقلة بمجلس إدارة مستقل يرأسه رئيس الديوان العام للمحاسبة، ولها معايير عمل مستقلة واختبارات مهنية، فلماذا تصر وزارة الموارد البشرية على أن يقوم كل مهني يعمل في هذا التخصص بالتسجيل كعضو في هيئة المحاسبة والمراجعة حتى لو لم يكن حاصلا على درجة بكالوريوس المحاسبة، وتتجاهل عضويته في الجمعية السعودية للمراجعين الداخليين؟ والحال نفسه مع تخصص المحاسبة الإدارية، الذي اعترفت به المملكة من خلال الاعتراف بجمعية المحاسبين الإداريين، التي لديها عضوية خاصة، ولديها اختبارات مهنية. هذه هي صورة الواقع، فهل نسأل الوزارة عن معنى المواءمة؟
ما يجدر ذكره ولا تفسير له عندي أو إجابة واضحة، أن الوزارة هي المعنية بالتوطين، وشرط السعودة يمنح المؤسسة أو الشركة تسهيلات التوطين أو يحملها عواقبه، فالمنتفع الأول من تحقيق نسب التوطين هي الوزارة التي تتحقق لها مؤشرات الأداء، والشركة التي تحقق متطلبات التوطين. وهنا، يأتي السؤال الذي أرهق تفكيري، لماذا يدفع الموظف السعودي ثمن هذا التوطين بإجباره على دفع عضوية هيئة المحاسبة، التي تصل إلى ألف ريال، ليتم احتسابه ضمن نسب السعودة في شركته؟ وإذا كان السؤال نفسه بهذه الصعوبة عند صياغته، فكيف نفهم لماذا يتعين على الذين خارج تخصص المحاسبة استكمال الساعات المشروطة لقبول العضوية؟ ومن يدفع هذه التكلفة؟ ولماذا يتحملها الموظف أو الباحث عن عمل؟
من هنا، أرى أن كل الحاصلين على درجة البكالوريوس في علم المحاسبة بتنوعه وتنوع مخرجاته وإدارة الأعمال أيضا، والذين يعملون في غير تخصص المحاسبة المالية، لكن في مؤسسات مهنية، إصلاح هذا الوضع في سبيل دعم منهجية توطين مهنة المحاسبة.
نقلا عن الاقتصادية