على عكس الشكوك التي أثارتها إدارة الرئيس الأمريكي السابق دونالد ترامب حيال استعداد الصين لإعفاء الدول المثقلة بالديون، فإن الواقع يثبت حجم التهويل الأمريكي لهذه المخاوف إزاء النموذج الصيني الحاضر بقوة في القارة الأفريقية؛ فقد أتاحت البنوك الصينية للبلدان الأفريقية مساحة كبيرة لإعادة هيكلة الديون قبل وبعد ظهور الوباء، ومن الطبيعي أن يؤدي فهم آلية عمل المؤسسات المالية الصينية في أفريقيا إلى مساعدة الإدارة الأمريكية الجديدة في بلورة سياستها الاقتصادية تجاه القارة السمراء، وإثراء النقاش العالمي حول طرق مساعدة الأفارقة على التعافي الاقتصادي.
خلال العقدين الماضيين، توافقت البنوك الصينية فيما بينها على إعادة هيكلة ديون القارة الأفريقية، ثم وقعت جائحة كورونا قبل أكثر من عام، ليتخذ الاتجاه العالمي مسار تخفيف ديون الدول الأشد فقراً، حيث تعد بكين أكبر مُقرِض للديون في القارة السمراء؛ إذ تمتلك ما لا يقل عن 21% من الديون الأفريقية، وتمثل المدفوعات التي يتلقاها التنين الصيني نحو 30% من خدمة ديون عام 2021، وتسدد أنجولا وحدها ما يقرب من ثلث هذه المدفوعات، لكن مشكلة الديون الأفريقية لا تقف عند عتبة بكين؛ فالمقرضين الآخرين مثل البنك الدولي، وصندوق النقد الدولي، يستحوذون على 20% من مدفوعات خدمة ديون أفريقيا هذا العام.
تبدو معضلة الحكومات الأفريقية كبيرة إزاء سداد الديون الحالة السداد في العام الجاري، لأن ملاك السندات، الذين يستحوذون على 19% من مدفوعات خدمة الديون المستحقة في 2021 امتنعوا عن تقديم أي تخفيف لأعباء الديون، ولهذا يبدو الدور الصيني المرتقب محوري في هذا الاتجاه، وقد سبق أن ألغت بكين خلال عشرين عاماً متأخرات متراكمة على 94 قرضًا بدون فوائد بقيمة 3.4 مليارات دولار، علماً بأن القروض خالية الفوائد تشكل فقط أقل من 5% من قروض الصين لأفريقيا.
بينما تتبع الصين نهجًا موحدًا عند إلغاء الديون المتأخرة، تميل عمليات إعادة هيكلة الديون الأخرى إلى التعامل وفق نهج خاص مع كل حالة على حدة، إذ يقدم أكثر من 30 ممولًا صينيًّا، على غرار بنوك السياسية المالية، والبنوك التجارية، والشركات الصينية، قروضًا للحكومات الأفريقية، وهؤلاء لديهم نهج خاص عند التفاوض بشأن الديون، ففي معظم الحالات، يتضمن الإعفاء الممنوح للدول المتعثرة قرضًا واحدًا أو مجموعة مختارة من القروض من حافظة الديون الصينية، فيما تنطوي عملية إعادة الهيكلة على تمديد فترة السداد، واللافت هنا، هو أن المقرضين الصينيين تحلوا برباطة جأش مذهلة، إذ لم يرفعوا دعاوى قضائية على الدول المتخلفة عن السداد، ولم يصادروا أصولاً للمدينين.
قبل تفشي الجائحة، تفاوضت الصين مباشرة على تخفيف عبء الديون، دون استشارة صندوق النقد الدولي أو الدائنين الآخرين، ومن المرجح الآن، أن تنعم الدول الأفريقية بتخفيف أسرع للديون الصينية مقارنة بتخفيف الديون الغربية، وذلك لأن الدائنين الغربيين من القطاع الخاص لم ينضموا بعد إلى جهود مجموعة العشرين لتخفيف عبء الديون، وقد عرضت البنوك الصينية إعادة هيكلة للديون قبل وبعد ظهور كورونا؛ ولكن نتيجة لوجود العديد من أصحاب المصلحة الصينيين، فإن تخفيف عبء الديون يستغرق وقتًا، ففي أنجولا على سبيل المثال، يقدم بنك الصين للاستيراد والتصدير تخفيفًا للديون بموجب شروط مجموعة العشرين، لكن بالرغم مع ذلك، تم التفاوض على نهج طويل الأجل لتخفيف الديون، ومن المتوقع أن يتم تخفف ديون أنجولا بواقع 6.9 مليارات دولار بين عامي 2020 و2022، ومعظم التخفيف قادم من الصين.
وفي مقابل التضحية بالأموال، تكتسب الصين نفوذاً متزايداً في القارة السمراء، حيث يتحرك التنين الصيني بخطى ثابتة ليصبح الإمبراطورية الأكبر في العالم التي تنافس الولايات المتحدة، وتعمل بكين من خلال مبادرة "الحزام والطريق" على التمدد الاقتصادي عالمياً، وفي سبيل ذلك، تخطط ﻹنفاق تريليون دولار إضافية خلال السنوات العشر القادمة، وعلى الدول الأفريقية أن تبحث عن مصالحها الاقتصادية دون أن تضحي بسيادتها التي يؤكد البعض أنها ستخدش في النهاية، إذ من الممكن أن تطالبها الصين بأشكال أخرى من سداد الديون، بداية من التأثير على القرار السياسي والاقتصادي لهذه الدول المتعثرة، وانتهاءً بالاستحواذ على الموانئ والأصول والأراضي.
خاص_الفابيتا