بعد الأحداث الاقتصادية، يتسابق المحللون في التفسير، ويفنّد كل منهم الحدث بحسب معرفته وخبرته وأحياناً حسب توجهاته السياسية، وتخلق هذه الحالة تضارباً في التحليلات الاقتصادية لدى المطّلعين عليها، وقد لا يكون لدى المحللين - الذين تعمّقوا في التفسير - أي توقع لهذا الحدث قبل وقوعه، ومن هنا تبرز الحاجة الملحّة إلى التمييز بين المعرفة الحقيقية، والوهم المعرفي. ومن أبرز الانحيازات التي تؤثر على عملية صنع القرار في السياسة والاقتصاد هو انحياز «وهم الفهم»، وهو ظاهرة معرفية تشرح ميل الأفراد والمجتمعات إلى تبنّي تفسيرات مبسطة ومطمئنة لأحداث معقدة، مع شعور زائف أن أسباب هذه الأحداث مفهومة وواضحة منذ البداية، بينما هي في الواقع أكثر غموضاً وتعقيداً، فما هذا الانحياز؟ وما الأمثلة عليه التي تلاحظ بشكل متكرر؟
ظهر مصطلح «وهم الفهم» في الأدبيات الحديثة عبر أعمال الاقتصادي السلوكي وعالم النفس دانيال كانيمان، وبالتحديد في كتابه «التفكير، السريع والبطيء»، الذي يميّز فيه كانيمان بين نمطين من التفكير: الأول نمط سريع وحدسي، يميل إلى الانفعال والاختزال، والثاني نمط بطيء وتحليلي يتطلب جهداً ذهنياً، ويتولد «وهم الفهم» وفقاً لهذا النموذج عندما يقوم العقل بعد وقوع الحدث، بإعادة ترتيب تسلسل الوقائع، وصياغة رواية تبدو منطقية ومقنعة، وهو ما يوحي أن هذا الحدث كان متوقعاً أو حتى حتمياً، هذه السردية المريحة تمنح شعوراً بالسيطرة على الأحداث، لكنها في جوهرها تتجاهل الصدف والتعقيد والجهل في المواضيع.
الأمثلة في السياق الاقتصادي والمالي كثيرة على هذا المفهوم، فعندما شهدت الأسواق العالمية انهيارا في عام 2008، نُسج حول هذه الأزمة تفسيرات كثيرة ركزت على الرهونات العقارية عالية المخاطر، وسلوك البنوك الاستثمارية، وفشل الجهات التنظيمية في متابعة البنوك، وعلى الرغم من صحّة ووجاهة بعض هذه التفسيرات، فإنها غالباً ما غيّبت حقيقة أن الغالبية العظمى من المحللين والمستثمرين فشلوا في التنبؤ بالانهيار، بل كان بعضهم يروّج لنمو متواصل آنذاك، وجاء بعدها السرد اللاحق للأزمة ليحاول إعادة تركيب بعض الوقائع بمنطق يُضفي على الفشل طابع الحتمية، متجاهلاً عنصر المفاجأة، وتعدد العوامل المترابطة بشكل معقّد.
في السياق ذاته، تُعد فقاعة «دوت كوم» مثالاً آخر على فشل في التنبؤ بالأزمات الاقتصادية، بل إن فترة ما قبل الأزمة أقنعت البعض أن الإنترنت قد ألغى القواعد الاقتصادية المتبعة في تقييم الشركات الناشئة، مما دفع المستثمرين إلى تقييم الشركات الناشئة بأسعار فلكية رغم غياب الأرباح (وهو ما يشبه بشكل أو بآخر ما يحدث هذا العقد في العملات المشفرة)، وعندما انفجرت فقاعة هذه الشركات لاحقاً، بُنيت سرديات أخرى تظهر أن «الإفراط في التفاؤل» أو «ضعف النماذج الاقتصادية» كانا واضحين، ولكن هذه الرؤية لم تكن حاضرة قبل الانهيار.
وهم الفهم يتكرر أيضاً مع روّاد الأعمال، فاليوم ينظر الجميع إلى إيلون ماسك وستيف جوبز بصفتهما رمزين للعبقرية الريادية، وغالبا ما تُعزى نجاحاتهما إلى «الرؤية» و«الجرأة» و«القيادة الاستثنائية»، ولكن هذه الروايات تتجاهل السياق والحظ والدعم المؤسسي، كما أنها تغفل آلاف الرياديين الذين امتلكوا نفس الصفات «الملهمة» ولم يصلوا إلى نفس مستوى النجاح، وكثيراً ما يهز المفتونون برواد الأعمال رؤوسهم إعجابا بتصرف منفرد لماسك أو جوبز أو غيرهما، متوقعين أن هذا التصرف هو سر نجاحهم، بل ظهر مؤخراً من يحاول تقليد ماسك في مزيجه المميز بين الجرأة والوقاحة، وكأن هذا المزيج هو سر النجاح، ومرة أخرى فإن هذا الفهم يعطي راحة عقلية، فالنجاح يبدو ظاهرياً قابلاً للفهم، ولكنه في الحقيقة معقد وعشوائي أكثر بكثير مما هو متوقع، ولذلك فإن تكراره بنفس الطريقة غير ممكن لاستحالة إمكانية تكرر نفس العوامل التي تسببت به.
إن وهم الفهم ظاهرة تتكرر كثيراً على مستوى الحكومات والشركات والأفراد، والتحوّط منه يستدعي عدة خطوات، أولاها الاعتراف بوجوده وأن الدماغ يميل إلى بناء قصص مقنعة بعد وقوع الحدث، والثانية اعتماد نهج الاحتمال لا الحتمية، فالجرأة عامل قد يتسبب في النجاح، ولكنه لا يحتّمه، والثالثة التمييز بين ما هو سردي وتحليلي، وعدم الخلط بين التسلسل الزمني للأحداث وحتميتها، ويكمن خطر «وهم الفهم» في أن الكثير من الأخطاء السابقة لا يمكن تجاوزها بفهم نصف القصة، أو اختزال أسبابها بمعرفة محدودة وبالتالي تخيّل فهم الأسباب وجذورها، فذلك يهدد العقلانية في القرارات الاقتصادية، وأكثر ما يدعم «وهم الفهم» هو توفيره تبريرات بسيطة تقنع غير المتخصصين، وتوضح لهم أن الأخطاء (أو النجاحات) التي حدثت يمكن تجاوزها (أو تكرارها) ببساطة في المستقبل، وهو ما يعطي إحساساً زائفاً بالراحة.
نقلا عن الشرق الأوسط
أعجبني العنوان " وهم الفهم " وهذا العنوان لوحده يكفي لوصف من يدعي المعرفة في كل شيء