من المهم ألا ننسى أن الكثير من الأعمال التجارية الجيدة لا تزال تنجز في منظمة التجارة العالمية، ففي الأوقات العادية، غير الوبائية، يتدفّق حوالي 20 تريليون دولار من حركة التجارة حول العالم مع وجود عقبات قليلة أو معدومة، وهنا يأتي دور منظمة التجارة التي تبرم اتفاقيات تستهدف الحفاظ على تدفق التجارة بسلاسة، ولهذا، فإن هناك عبء كبير بانتظار الخبيرة النيجيرية المخضرمة أكونجور إيويلا المديرة الجديدة لمنظمة التجارة العالمية، إذ تتولى قيادة أكبر منظمة دولية مسؤولة عن تيسير حركة التجارة العالمية في أحلك الظروف الاقتصادية بفعل جائحة لا تبقي ولا تذر، وفي ظل توقف مفاوضات التجارة العالمية منذ أكثر من 20 عاماً.
ربما تكون أجواء اختيار أكونجور عاملاً مساعداً على تحقيق النجاح بعد إزاحة الرئيس الأمريكي السابق دونالد ترامب، فهو المتهم الأول بعرقلة عمل المنظمة، ورفضه المتكرر لتعيين قضاة الاستئناف في هيئة تسوية المنازعات، الذراع القضائي للمنظمة، وعلى المديرة الجديدة أن تغتنم فرصة رحيل مؤجج الحروب التجارية، والمهدد بخروج بلاده من منظمة التجارة، وعليها أن تستفيد من الدعم الأمريكي لاختيارها مديرة لمنظمة التجارة، وأن توظف هذا الزخم في العمل الجماعي المثمر للتخلص من حالة الركود التي ضربت التجارة العالمية في ظل جائحة كورونا، ولا شك أن الدعم الأمريكي لها يعد خطوة دبلوماسية ذكية، إذ يعطي إشارة لعودة الولايات المتحدة إلى الدبلوماسية متعددة الأطراف، لكنه لا يعني التأثير على حقوق الولايات المتحدة والتزاماتها في مجال التجارة العالمية، أو أن تُغفل مخاوفها بشأن الصين.
لم يكن الدعم القوي الذي نالته المسؤولة النيجيرية من الاتحاد الأوروبي وأمريكا من فراغ، بل من خلال عملها في البنك الدولي لمدة ربع قرن، وهذا يعني ببساطة أنها من دعاة العولمة ومؤيدي الرأسمالية والتوجهات الاقتصادية لأوروبا وأمريكا، ومع ذلك، فإنه من المجحف أن نتناسى أن طريق أكونجور لم يكن مفروشاً بالورود، إذ عاشت سنواتها التسع الأولى مع جدتها، بعيداً عن والديها اللذين كانا يدرسان بالخارج، وطوال 10 سنوات اختبرت حياة القرية، فكانت تحمل الماء، وتذهب إلى المزرعة مع جدتها، فعرفت عن تجربة حياة الفقراء، وهو ما يفسر اهتمامها بالفقراء في مراحل عملها اللاحقة.
ينسب لـ أكونجور العديد من المبادرات لمساعدة الدول الفقيرة، ومنها توفير 50 مليار دولار خلال الأزمة المالية عام 2010 على شكل منح وقروض منخفضة الفائدة لدعم الدول الفقيرة، ومبادرات أخرى خصصت لدعم الدول الفقيرة إبان أزمة الغذاء عامي 2008 و2009، ولهذا كانت أول امرأة إفريقية تنافس على رئاسة البنك الدولي عام 2012، بدعم من قارتها السمراء والدول النامية.
لكن، ثمة ملاحظة مهمة تتعلق بأداء أكونجور المتوقع، فآلية العمل في منظمة التجارة تختلف تمامًا عن آلية العمل بالبنك الدولي، حيث يتمتع البنك الدولي بصلاحيات أكبر في التعامل مع عملائه، ويعطي موظفيه صلاحية كبيرة في قرارات تقديم التمويل من عدمه، وهي علاقة يمكن وصفها بالإذعان لأنها تعتبر علاقة من طرف واحد، فطالب التمويل من البنك الدولي يكون في موقف ضعيف، وليس له خيار في رفض سياسات البنك المصاحبة لمنح التمويل.
أما في منظمة التجارة، فإن المؤتمر الوزاري للمنظمة يعتبر عصب العمل، حيث يتم الاتفاق من خلاله على أجندة العمل المطروحة، وتحديد جوالات التفاوض، والتصويت على ما يتخذ من قرارات، ولذلك تسمى اتفاقيات منظمة التجارة العالمية بالاتفاقيات متعددة الأطراف، وبالتالي، فإن صلاحيات أكونجور محدودة بحكم لوائح عمل المنظمة، ففي حين أن مصالح الدول النامية مثلًا تأتي من مناداتها بتجارة عادلة وليس تجارة حرة، وهو ما لن تتبناه أكونجور، كما أن أعضاء منظمة التجارة وخاصة الكبار منهم، ليسوا في وضع يماثل طالبي التمويل من البنك الدولي، فهناك الصين والاتحاد الأوروبي واليابان وباقي الدول الصاعدة التي تطالب بإلغاء الحماية التجارية، وتتطلع لعودة عمل المنظمة لما كانت عليه قبل مجيء ترامب للسلطة على الأقل.
تبدو أكونجور بحاجة إلى دعم دولي واسع، فهي تتسلم المنصب الرفيع في وقت تخفت فيه أحلام المنادين بحرية التجارة، كما تكشف أزمة كورونا تقصير قوانين المنظمة عن تحقيق العدالة والمساواة، لكن أكونجور تستعد للتحدي بأجندة إصلاحية، تشمل خططاً للتنمية ومواجهة التغير المناخي، واضعة الجائحة على رأس أولوياتها بالإضافة إلى رفع قيود التصدير التي تبطئ التجارة، وإذا كان بعض الذين أداروا المنظمة لعبوا دور "المجدد"، فيما لعب آخرون دور "السكرتير الممتاز" للدول الكبرى، فإن أكونجور لن تكون سكرتيراً ممتازاً، بل ربما تكون في مكان في المنتصف بين هذا وذاك.
خاص_الفابيتا