نتابع في هذا العمود طرح الأفكار الرئيسة في كتاب تجربة آسيا. ربما تكون الفكرتان الخامسة والسادسة لب موضوع التحديث والأقرب لتجارب كثير من الدول التي تحاول الوصول إلى الطريق الصحيح، كما رصد الكتاب تجارب في اليابان ومن ثم كوريا وتايوان وأخيرا الصين، وكيف تعثرت الفلبين وتايلاند وماليزيا وإندونيسيا. لعل فيتنام في طريق مختلف، لكن من المبكر الحكم.
الفكرة الخامسة: التصنيع الناجح يطالب الشركات المصنعة بالتصدير ويشجع على المنافسة. رأينا مدى أهمية حماية الشركات الوطنية الجديدة من المنافسة الدولية، لكن لا بد للشركات الوطنية أن تصل إلى مرحلة النضج، حيث يستطيعون الاستمرار دون حماية. هذه العملية طويلة وتحتاج إلى رعاية ورقابة لصيقة في الحكومات الناجحة لمتابعة نجاح التصنيع من خلال معيارين: الأول، تشجيع التصدير، والثاني استمرار المنافسة الداخلية. اليابان وتايوان قدمتا دعما مباشرا للمصدرين، لكن كوريا أخذت خطوة أبعد، حيث ربطت بين التصدير ومستوى الإقراض المصرفي. الشركات التي لم تستطع تصدير نسبة معينة تم قطع الدعم لإرغامها على الاندماج أو الخروج من السوق. حين بدأت كوريا تصنيع السيارات تم تكوين ثلاث شركات لسوق وطنية صغيرة بنحو 34 ألف سيارة سنويا، ولذلك لا بد من التصدير. الدول التي أغفلت دور المنافسة لم تحقق نجاحا يذكر، فمثلا ماليزيا كانت لديها سوق تصل إلى نحو 90 ألف سيارة، ولذلك الفرق بين تشجيع المنافسة من عدمه اتضح لاحقا، فحققت كوريا نجاحا مذهلا وتعثرت ماليزيا. في الثمانينيات والتسعينيات حدثت نهضة اقتصادية كبيرة في آسيا، ما أخفى القدرات التنافسية في بعض الصناعات. لكن بعد الأزمة المالية في 1997 استطاعت الدول التي اهتمت بالتنافسية، مثل كوريا وتايوان، التعافي بسرعة أكثر من تايلاند وماليزيا. النتيجة اليوم أن حصة الفرد من الدخل القومي في كوريا وتايوان أربعة أضعاف في تايلاند وإندونيسيا.
الفكرة السادسة: الانفتاح المالي قبل وقته يعوق التنمية. كثيرا ما نسمع اقتصاديين ينادون بالانفتاح المالي، لكن هل هذه هي السياسة الأفضل؟ إذا حدث انفتاح قبل حينه، فإنه يعوق تطوير صناعات تقنية تنافسية. فمثلا ماليزيا بدأت بتحرير سوق المال في 1989، ما وجه الأموال التي يحتاج إليها الاقتصاد للمضاربة، أسرعت المصارف لإقراض المضاربين المتمكنين، ما زاحم الشركات الصناعية. بينت دراسة للبنك المركزي أن الشركات حصلت على تمويل محدود من المصارف. دون توافر إقراض من القطاع المالي يصعب أن تنهض الصناعة. هناك دول لم تأخذ بتحرير الأسواق المالية، بل أخذت بتوجيه وتقنين الصناعة وما يخدمها. حكومات اليابان وكوريا وتايوان واصلت السيطرة على المنظومة المالية في المراحل المفصلية من عملية التطوير. أعطت الحكومة والبنك المركزي المصارف حوافز وخصومات لتسهيل دعم التصدير ونقل التقنية. رغم بعض الأخطاء والهدر إلا أن الحوافز قامت بدور مهم لتحديث هذه الدول. في حالات قليلة يخدم التحرير المالي عملية التطوير، مثل هونج كونج وسنغافورة، حيث المكان وتركيز السكان في مساحة صغيرة والنقل البحري، حيث لم يكن للزراعة والصناعة دور كبير، لذلك كان النجاح في التجارة والخدمات المالية.
الواضح من تجربة الدول الآسيوية أن هناك وصفة سبق أن تحدثنا عنها في الأعمدة الماضية، لكن لب الموضوع التصنيعي هو خيار التصنيع غالبا على عاتق القطاع الخاص بتوجيه قيادي ودعم ورقابة حماية حكومية بغرض الوصول إلى مرحلة التصدير، والوصول إلى مرحلة التصدير يتطلب منافسة داخلية ينتج عنها الاندماج أو سحب الدعم عن الضعيف. الدرس الواضح لنا أن ندعم القطاع الخاص، فمثلا كان لا بد لصناعة التكييف أن تكون سباقة لو وظفنا الوصفة بدقة واستمرارية، لأن التقنية متوافرة، والقطاع الخاص كان سباقا، والسوق الوطنية كبيرة للتمهيد للمنافسة والتصدير.
نقلا عن الاقتصادية