لا تزال صناعة الأغذية في الصين تكافح من أجل التعافي من تداعيات تعطيل سلاسل الإمدادات العالمية، بالإضافة لذلك تواجه مطاعمها ضغوطًاً لتقديم وجبات أقل لزبائنها، وهذا موضوع حساس جداً في الصين، إذ لا تزال مجاعة الخمسينيات والستينيات من القرن الماضي والتي أدت إلى موت 45 مليون صيني حية في ذاكرة الكثيرين، فيما يعتبر بعضهم القدرة على أكل ما يريدون عندما يريدون، علامة على الثروة الجديدة في بلد منتعش اقتصادياً، وكان سحب الحكومة الصينية قسائم الطعام في 1993، رمزًا قويًا على أن أيام نقص الغذاء قد ولت، وأن الناس أصبحوا أحرارًا في تناول الطعام كما يشاءون.
تكتسب قضية الأمن الغذائي أهمية أكبر لدى الصين في الوقت الحالي نظرًا لما تمر به من أزمات متداخلة بما فيها الاقتصاد المتزعزع والفيضانات الشديدة التي خلَّفت مساحات شاسعة من الأراضي الزراعية في المناطق المغمورة بالمياه، وأجبرت الجائحة السلطات على إطلاق حملة "الطبق النظيف" بهدف تجنب إهدار الطعام في ضوء الظروف الجارية، التي قد تضعف
قدرتها على توفير الطعام لشعبها البالغ 1.4 مليار نسمة، وأهابت الأجهزة الرقابية بالقائمين على برامج البث المباشر الذين يتناولون الطعام بشراهة، ويروجون للاستهلاك المفرط، ألا يهدروا الطعام وأن يتوقفوا عن هذه الممارسات، وجاء إطلاق الحملة عقب وصف الرئيس الصيني شي جين بينج، إهدار الطعام «بالصادم والمحزن»؛ ما جعل الناس يتسابقون لإجابة الدعوة حتى أن بعضهم أفرط في استجابته على نحو أكبر من غيره.
لطالما سعى الحزب الحاكم إلى إظهار الرئيس شي بصورة الزعيم المحارب للإسراف والشراهة في المؤسسات الرسمية، لكن هذه الدعوة الجديدة للانضباط في تناول الطعام موجَّهة إلى الشعب، وتحمل معها حاجة استثنائية في هذه الأوقات العصيبة التي تشهد توترات تجارية مع أبرز الشركاء الاقتصاديين، وتعطل الاستيراد الناجم عن الاضطرابات الجيوسياسية العالمية، والجائحة، بالإضافة إلى الفيضان المهلك الذي أصاب الصين هذا العام، والذي قد يؤدي إلى توقف الإمدادات الغذائية.
أثارت التوجهات الغامضة من الإدارة العليا موجة من التكهنات؛ إذ تحركت وسائل الإعلام بسرعة لتهدئة الذعر بشأن النقص الوشيك في الغذاء، وأفادت بأن
الصين شهدت مؤخرًا حصادًا وفيرًا من الحبوب، وسجلت إنتاجًا مرتفعًا منه، فيما قوبلت الدعوة في أحيانٍ أخرى بإجراءات خرقاء، فسرعان ما أثار أحد المطاعم الذي بادر بتنفيذ فكرة وزن الزبائن قبل الدخول إليه موجة ردود عنيفة؛ ما اضطره إلى الاعتذار في الأخير.
أصابت حملة "الطبق النظيف" قلب ثقافة الطعام في الصين؛ إذ جرت عادة الصينيين طلب أطباقٍ متنوعة وكثيرة، وترك المتبقي من الطعام، إذ يُعد وسيلة لإظهار الكرم للأقارب والعملاء وشركاء العمل والضيوف المهمين، في حين ساهمت هذه العادة في إهدار طعام يتراوح حجمه من 17 إلى 18 مليون طن سنويًا، وهي كمية يمكن أن تُطعِم من 30 إلى 50 مليون شخص أي ما يعادل سكان أستراليا ونيوزيلندا مجتمعين، أو ولاية تكساس، لمدة عام كامل.
لكن تحذيرات الرئيس شي من مخاطر الإسراف، تعد انعكاساً جلياً للتغير في مستويات المعيشة المرتفعة، وقد تبدو حملات التقشف غير ملائمة في الصين الحديثة، حيث تزدحم المدن بناطحات السحاب ومراكز التسوق والسيارات الفاخرة، إلا أنها كانت شائعة في عصر الزعيم الصيني ماو تسي تونج (1893- 1976) عندما حث مواطنيه على تناول وجبتين فقط في اليوم على أن تكون إحداهما من السوائل، أو المأكولات
اللينة، وكان ماو أمر الفلاحين في تلك الحملة بأن ينظموا أنفسهم داخل مجموعات يعيشون سويًّا، ويتشاركون الممتلكات، والموارد، وبناء أفران فولاذية في الأفنية الخلفية من أجل اللحاق بركب الغرب؛ ما أدَّى إلى تراجع الإمدادات الغذائية بسبب هذه القرارات، وعض الجوع بنابه حوالي 45 مليون شخص.
منذ فترة والصين مستعدة لإمكانية الخضوع لعزلة دولية، ولذا سعى الحزب الحاكم إلى التأكد من قدرة البلاد على إنتاج ما يكفي من الغذاء، وتذكِّرنا الجائحة والفيضانات بالتحديات التي واجهها أباطرة الصين الذين اعتمدت شعبيتهم إلى حد كبير على قدرتهم المتصورة على الحفاظ على التناغم بين الإنسان والطبيعة، ومن خلال اتخاذ خطوات استباقية للاستعداد لنقص الغذاء، يلقي الرئيس شي بالمسؤولية على عاتق الناس، ويطلب منهم الاقتصاد في تناول الطعام.
لكن المشكلة الآن هي أن بعض أصحاب المطاعم مترددون في تحمل تكلفة حملة الطبق النظيف، فلا يريدون أن يشجعوا الزبائن على طلب طعام أقل، لأن تكاليف الإيجار ورواتب الموظفين آخذة في الارتفاع، ولا توجد طريقة لدعمهم دون خسارة المال، ويعد مدونو البث المباشر "ملوك المعدة الكبيرة" أول المتضررين حيث حقَّق القائمون على تلك البرامج
شهرتهم من خلال مقاطع فيديو حية لأنفسهم أثناء تناول كميات هائلة من الطعام، ويجذبون حشودًا هائلة من المعجبين ويعتمدون على هذه البرامج لتأمين دخلهم.
خاص_الفابيتا