قبل عقدين فقط، كانت الصين تعتمد على وفرة العمالة وانخفاض التكلفة في عمليات التصنيع، وفي هذين العقدين، بدأت البلاد انتقالاً استراتيجياً من نموذج يركز على الإنتاج الرخيص، نحو بناء اقتصاد يقوم على الابتكار العميق في التقنيات المتقدمة، هذا التحول لم يأتِ تدريجياً بفعل الزمن، بل نتيجة قرار واعٍ بإعادة تشكيل بنية الاقتصاد، وتوجيه الاستثمارات نحو المعرفة، وخلق منظومة تقنية ضخمة تربط بين الدولة والشركات والجامعات. واليوم، بعد أن كانت الشركات العالمية تدخل الصين بحثاً عن الإنتاج الرخيص أصبحت تعتمد عليها في إنتاج تقنيات لا تستطيع تنفيذها بالسرعة ذاتها داخل بلدانها.
هذا التحول الصيني يستند إلى تطور هائل في الإنفاق على البحث والتطوير. ففي عام 2003، كان الإنفاق الصيني على البحث والابتكار يقارب 84 مليار دولار، مقابل 291 مليار دولار في الولايات المتحدة، أي أن الصين كانت تنفق أقل من ثلث ما تنفقه أميركا. وخلال 20 عاماً، وبحلول عام 2023، قفز إنفاق الصين إلى 781 مليار دولار، مقابل 823 مليار دولار في الولايات المتحدة، أي أن الفجوة الواسعة في العقد الأول من القرن تحولت إلى شبه تساوٍ بعد عقدين فقط، وأصبح نمو الصين أقل اعتماداً على التوسع الكمي، وزاد توجهه النوعي نحو الاقتصاد المعرفي.
ولم يقتصر التغيير على حجم الإنفاق فحسب، بل امتد إلى طبيعة من يقوم به، فبعد أن كان البحث والتطوير في الصين يعتمد على التمويل الحكومي المباشر، انتقل النشاط خلال السنوات العشر الماضية ليكون قائماً بشكل كبير على الشركات المحلية، تضاعف عدد مؤسسات البحث والتطوير 3 مرات، ليصل إلى أكثر من 150 ألف مؤسسة، وارتفع عدد العاملين في البحث التقني إلى 5 ملايين، كذلك تخرّج الصين سنوياً نحو 50 ألف دكتور في مجالات العلوم والهندسة والتقنية، مقارنة بنحو 34 ألفاً في الولايات المتحدة، هذا التراكم البشري والمعرفي حول الصين من دولة مستوردة للتقنيات إلى دولة تنتج منظومتها الخاصة.
وتستند الفلسفة الصينية في الابتكار إلى مبدأ واضح؛ ربط البحث العلمي مباشرة بالقطاع الإنتاجي، فهي لا تركز على البحوث النظرية البعيدة عن التطبيق، بل على الابتكار التطبيقي المرتبط بقطاعات حقيقية تقود سلاسل القيمة العالمية، تشمل هذه القطاعات: البطاريات، والاتصالات المتقدمة، والروبوتات الصناعية، والمواد المتقدمة، والطاقة الجديدة، والمركبات الكهربائية. هذه القطاعات ليست مجرد منتجات، بل أدوات استراتيجية تمكّن الصين من بناء اقتصاد يعتمد على ذاته، وتطوير تقنيات أساسية لا تستطيع الدول الأخرى الاستغناء عنها في المستقبل.
وتتميز التجربة الصينية أيضاً بسرعة التنفيذ، فالنظام المركزي يقلص البيروقراطية، ويخلق تنسيقاً فعالاً بين الدولة وقطاع الأعمال، ويعطي دفعة قوية لتحويل نتائج البحث إلى منتجات تجارية، هذا ما يجعل الصين قادرة على اختصار دورات التطوير إلى نصف أو ثلث الزمن الذي تحتاجه الاقتصادات الغربية، النموذج الصيني يتعامل مع الزمن بوصفه مورداً نادراً، ومع الابتكار بوصفه ضرورة استراتيجية في منافسة مع الولايات المتحدة، لذا لا تتردد الدولة في ضخّ استثمارات ضخمة حتى مع احتمال وجود نسبة من الهدر، ما دامت النتيجة هي تحقيق الاكتفاء التقني وتقليل الاعتماد على الخارج.
هذه القوة المتنامية جعلت الدول الغربية تعيد تقييم تجربتها، فالشركات التي كانت ترى في الصين ورشةً للإنتاج، أصبحت تراها اليوم مركزاً للمعرفة، ففي مدينة شنغهاي وحدها ارتفع عدد مراكز البحث والتطوير الأجنبية من 441 إلى 631 مركزاً خلال 5 سنوات، شركات مثل «فولكس واغن» تطور أنظمة القيادة الذاتية في الصين أسرع مما تفعل في ألمانيا، وشركة «سكانيا» استطاعت خلال عام واحد دمج أنظمة قيادة ذاتية طوّرت في الصين، بعد سنوات من المحاولات في أوروبا والولايات المتحدة. حتى شركة «رينو» الفرنسية التي لا تبيع في الصين أنشأت مركزاً للبحث التقني فقط لمراقبة التطور الصيني عن قرب.
وعلى الجانب المقابل من النموذج الصيني الديناميكي، يعاني الغرب من تباطؤ في تمويل العلوم، وانقسامات سياسية، وبيئة تنظيمية تجعل الابتكار أبطأ وأقل قدرة على التحول إلى منتجات صناعية، وبينما تركز الولايات المتحدة على تقنيات مزعزعة بعيدة المدى، تركز الصين على تطبيقات صناعية جاهزة لبناء سلاسل قيمة جديدة، تدعم الاقتصاد بشكل مباشر وأسرع رتماً من النموذج الأميركي، مع التأكيد على أن هدف النموذج الأميركي مختلف في هذا الشأن.
لقد حاول الغرب كثيراً إقناع العالم أن التقنيات الصينية إما مسروقة أو نسخت باستخدام الهندسة العكسية، ولكن الواقع الآن يقول عكس ذلك، حتى مع كون الغرب مصدر معظم العلوم الحديثة، فإن الشرق استفاد من هذه العلوم في اقتصاداته كما تفعل الصين، واليوم يمكن القول إن المنافسة في الابتكار لم تعد منافسة شركات فحسب، بل هي منافسة نماذج اقتصادية متكاملة، وأصبح العديد من الدول الغربية مراقبة لهذا التحول، دون تغير واقعي يعيد بناء منظوماته التقنية للمحافظة على التنافسية، وهي الآن ضحية البيروقراطية، والعواصف الاقتصادية التي تمر بها، حتى أصبحت نماذج الابتكار فيها مهترئة ولا يمكنها منافسة قطبي الابتكار العالميين؛ الصين والولايات المتحدة، اللذين لم يكن أحد يتصور قبل 10 سنوات أن يصبحا نظيرين في الابتكار.
نقلا عن الشرق الأوسط


