لماذا يتحسس قطاع الأعمال الأمريكي من أي تقدم في توزيع الثروة؟، ولماذا يصر على إنكار مسؤوليته التاريخية عن ضخ المال السياسي في واحدة من أعرق ديموقراطيات العالم؟.. من زاوية اقتصادية بحتة، فإن الأمر يؤشر على حالة الافتقار للقدرة التنافسية في أكبر اقتصاد عالمي، مما ينعكس بدوره على آفاق النمو في المديين القريب والمتوسط، لكنه يؤذن أيضاً بتنامي فجوة الثروات بين أرباب العمل، والعمال، والأسر الأمريكية، مما سيؤدي إلى رؤية أسوأ ركود اقتصادي منذ ثلاثينيات القرن الماضي، ولا شك أن هذا التحالف بين رجال السياسة والاقتصاد أحد مظاهرة وتجلياته.
تبدو مسؤولية الخلل السياسي عن تراجع التنافسية في الولايات المتحدة واضحة وضوح الشمس لأى مراقب للاقتصاد الأمريكي، فقد أهدر صناع القرار بشكل دراماتيكي أطول فترة انتعاش مسجلة في التاريخ بعدم الاستثمار في مجالات يعتقد الأمريكيون، من مختلف الأطياف السياسية، أنه يجب الاستثمار فيها فوراً، مثل مشروعات البنية التحتية، وإصلاح التعليم، وتسهيل عمل المهاجرين المهرة في الولايات المتحدة، والحقيقة الساطعة أنه بدون منافسة في السياسة، فلن يمكن لأمريكا المنافسة في الاقتصاد، والقاعدة أن المنافسة لا تتجزأ، إذ تعد عنصراً أساسياً لصعود أي مجتمع يطمح إلى التقدم بعيداً عن خطيئة الاحتكار.
في المقابل، يشكل قطاع الأعمال الأمريكي سبباً آخر للمأزق الراهن، لأن الأنشطة الاقتصادية في بلاد العم سام تستفيد في تمويلها من الخلل الوظيفي في العمل السياسي، بعدما أصبحت تمويلات رجال الأعمال جزءاً لا يتجزأ من المشهد السياسي، وهم يقودون بإصرار عملية حشد الأصوات الانتخابية، وإعادة رسم خريطة التحزب، وينفقون بكل جرأة حوالي ستة مليارات دولار في كل عرس انتخابي، بهدف ممارسة أكبر نوع من الضغط السياسي، ويتولى هذا الملف "اللوبي الاقتصادي" كبرى شركات التكنولوجيا، وغرفة التجارة الأمريكية، والرابطة الوطنية للوسطاء العقاريين، وهكذا تنتهي الأموال المتدفقة للسياسة إلى استحداث قوانين تجارية، وقواعد ضريبية لا ترضي عنها سوى عدد شريحة قليلة من الأمريكيين، وعن طريقها تحصل هذه الشركات على إعفاءات ضريبية ومخرج قانوني ملائم.
الغريب في الأمر، أن رجال الأعمال يرفضون بعنجهية معتادة الاعتراف بأنهم أصبحوا جزءاً من المشكلة، بالرغم من أن أي مراقب يمكنه رؤية تأثيرهم في المشهد السياسي بالشكل الذي يؤدي إلى تآكل الديمقراطية، وتراجع تنافسية الاقتصاد ككل، حيث يتراوح تأثير هؤلاء الشركاء الاقتصاديون في العملية السياسية بين ممارسة أقصى ضغط للحصول على منافع تجارية، وتعيين مسؤولين في مناصب حكومية حساسة للاستفادة بهم في اصطياد مشروعات اقتصادية تدر أرباحاً ضخمة، ما كانوا ليحصلوا عليها لولا توافر الدعم السياسي.
بينما تتكشف عيوباً هيكلية ضخمة في النظام الأمريكي، يصر قطاع الأعمال على رفض الاعتراف بممارساته السلبية التي أدت إلى الفوضى الراهنة، بالرغم من أن قادة الأعمال يدركون تمامًا كيف تتفاعل شركاتهم مع النظام السياسي، ويعرفون بالضبط كيف يعمل النظام، وبأي ثمن يحصلون على بغيتهم الاقتصادية، ففي 2016، على سبيل المثال راهن رجال الأعمال على انتخاب إمبراطور العقارات والملياردير الجمهوري دونالد ترامب لأنهم كانوا يعلمون أنهم سيحصلون في المدى القصير على مزايا ضريبية، فضلاً عن فقاعة أصول مربحة للغاية، ولكن ما حدث أنه بموازاة تلك المكاسب المؤقتة، فجرت الإدارة الجديدة، حرباً تجارية مدمرة مع الصين وأوروبا، وأقبلت بكل قوة على الانكفاء على الذات وفقاً لشعار "أميركا أولاً"، وانسحبت بكل جرأة من العديد من الاتفاقيات التجارية والمناخية.