في الوقت الذي تتصاعد خلاله مواجهة تحدي البطالة إلى ذروتها، وتستدعي اتخاذ أكبر قدر ممكن من القرارات والتدابير اللازمة للحد من مخاطر هذا التحدي التنموي الجسيم، والضغط في هذا الاتجاه المشروع والمستحق على منشآت القطاع الخاص دون استثناء لأجل تحقيقه، حدث ما لم يكن في الحسبان من قبل عدد كبير من الهيئات والمؤسسات الحكومية الخاضعة لنظام التأمينات الاجتماعية، التي مضت في طريق توظيفها للموارد البشرية لديها على عكس الجميع (أجهزة حكومية خاضعة لنظام الخدمة المدنية، منشآت قطاع خاص)، التي أظهرت نتائج التوظيف لديها حتى نهاية الربع الأول من العام الجاري، ووفقا لإحصاءات سوق العمل الصادرة عن الهيئة العامة للإحصاء، ارتفاعا قياسيا غير مسبوق في أعداد العمالة الوافدة لديها، وصلت نسبة نموه السنوية إلى 77.6 في المائة (73.4 في المائة للذكور الوافدين، 88.8 في المائة للإناث الوافدات)، وهي نسبة النمو السنوية التي تعد الأعلى في منظور أكثر من ثلاثة عقود مضت في مجال الوظائف الحكومية.
ترتب على هذا النمو القياسي للعمالة الوافدة في تلك الأجهزة الحكومية، أن ارتفعت أعداد العاملين من الوافدين بنهاية الربع الأول 2020 إلى أعلى من 54.1 ألف عامل (38.4 ألف عامل من الذكور، 15.7 ألف عامل من الإناث)، مقارنة بأعدادهم في نهاية الربع الأول 2019 البالغة 30.5 ألف عامل (22.2 ألف عامل من الذكور، 8.3 ألف عامل من الإناث)، وتراجع على أثره معدل التوطين في الأجهزة الحكومية الخاضعة لنظام التأمينات الاجتماعية إلى 82.7 في المائة، مقارنة بمستواه الذي كان عليه نهاية الربع نفسه من العام الماضي عند 88.5 في المائة، علما بأن هذا المعدل للتوطين كان مستقرا عند 95.9 في المائة بنهاية 2012، ثم اتخذ وتيرة من التراجع طوال الفترة 2012 - 2020 حتى وصل إلى أدنى مستوى له بنهاية الربع الأول من العام الجاري. تؤكد التطورات الأخيرة أعلاه لدى تلك الهيئات والمؤسسات الحكومية، وجود تعارض كبير في مسائل التوظيف لديها مع، أولا: التوجيهات السامية السابقة للجهات الحكومية والهيئات والمؤسسات العامة والشركات الحكومية المملوكة للدولة، بالالتزام بما قضت به الأوامر السابقة بعدم التعاقد مع غير السعوديين للقيام بأعمال السكرتارية أو مديري مكاتب المسؤولين أو النسخ أو مراكز حفظ المعلومات والأعمال الحساسة بالنسبة للأمن الوطني، وأن يتم إحلال الكوادر الوطنية المؤهلة محل غير السعوديين في الأعمال التي يمكن للسعوديين القيام بها، وأن يكون التعاقد مع الأجانب في أضيق حدود، وفي التخصصات النادرة فقط، وكما تظهر التطورات المضاعفة الأخيرة لأعداد العمالة الوافدة، أن الأمر على أرض الواقع لدى تلك الهيئات والمؤسسات الحكومية قد تجاوز إلى حد بعيد الدائرة الضيقة لمجال التخصصات النادرة، ولا يمكن أن تكون تلك الزيادات القياسية في أعدادهم والأكبر في منظور أكثر من ثلاثة عقود زمنية مضت، أنها وظائف ذات تخصصات نادرة!
ثانيا: كيف يمكن تفسير هذا التعارض في ارتفاع معدل التوطين - رغم صعوباته الكأداء - لدى منشآت القطاع الخاص؟ مقابل تراجعه في الوقت ذاته لدى تلك الهيئات والمؤسسات الحكومية؟ وكيف يمكن تبريره من قبل تلك الأجهزة الحكومية في ظل تصاعد أعداد الباحثين والباحثات عن عمل من المواطنين والمواطنات (تجاوزت أعدادهم 1.0 مليون باحث وباحثة بنهاية الربع الأول 2020)؟ وكيف سيكون في الإمكان تحقيق مزيد من النجاح والتقدم على طريق خفض معدل البطالة بين المواطنين والمواطنات البالغ 11.8 في المائة (5.6 في المائة للذكور، 28.2 في المائة للإناث)، في الوقت ذاته الذي تظهر الإحصاءات الرسمية أن هيئات ومؤسسات حكومية تقبل على مزيد من التعاقد مع العمالة الوافدة؟
أمام واقع جديد أصبح متمثلا في خضوع جميع أطراف جهات التوظيف في القطاعين الحكومي والخاص، تحت جهة حكومية واحدة (وزارة الموارد البشرية والتنمية الاجتماعية)، فإنه لا بد من أن تبادر الوزارة بالمسارعة نحو معالجة تلك التطورات المتعارضة تماما مع منظومة الجهود الحكومية الهادفة إلى رفع معدلات توطين الوظائف في كل من القطاعين الحكومي والخاص، خاصة في ظل الظروف الراهنة التي تحمل تحديات أكبر بكثير مما تحمله كفرص للتوظيف، وفي ظل وجود معدلات بطالة مرتفعة جدا بين صفوف المواطنين والمواطنات، خاصة لدى حملة الشهادات الجامعية فأعلى، التي أظهرت الإحصاءات الرسمية الأخيرة الصادرة عن الهيئة العامة للإحصاء، وصول معدل البطالة لدى تلك الشريحة إلى 16.7 في المائة (5.4 في المائة لدى الذكور، 32.7 في المائة لدى الإناث)، ويضاعف أيضا من أهمية تلك الجهود الهادفة إلى زيادة فرص العمل أمام المواطنين، ما كشفت عنه الإحصاءات الرسمية الأخيرة نفسها، من ارتفاع معدل البطالة لدى الشريحة الشابة من المتعطلين، التي وصلت بنهاية الربع الأول 2020 بالنسبة للشريحة العمرية (20 عاما - 29 عاما) إلى 25.3 في المائة (14.7 في المائة لدى الذكور، 49.6 في المائة لدى الإناث).
ختاما، تقتضي التحديات التنموية الراهنة، وما نتج من آثار عكسية عن انتشار الجائحة العالمية لفيروس كورونا كوفيد - 19، لعل من أبرزها توقع عودة معدل البطالة للارتفاع كما حدث في جميع الاقتصادات حول العالم، أن تقوم وزارة الموارد البشرية بتكثيف جهودها مع تلك الهيئات والمؤسسات الحكومية، والعمل وفق مستويات أعلى من التنسيق المباشر على مزيد من ضبط آليات التوظيف فيها، والعمل أيضا على معالجة تلك الزيادات القياسية في أعداد العمالة الوافدة، وإعادتها على وجه السرعة نحو دائرة التوطين، وضرورة الالتزام بالتوجيهات السامية في هذا الخصوص، وهو الأمر الأقل تكلفة وصعوبة مقارنة بالجهود ذاتها مع منشآت القطاع الخاص، والمتوقع ألا يجد ما يعوق تحققه خلال أجل قصير، ويؤمل أن ترى نتائجه قبل نهاية العام الجاري، وأن نرى جميعا انعكاسه على معدل التوطين في تلك الهيئات والمؤسسات كدليل حقيقي على نجاح تلك الجهود.
نقلا عن الاقتصادية