يبدو أن التعافي الاقتصادي من الركود سيستغرق وقتًا أطول من المتوقع، في ظل تفاقم تلال الديون التي تراكمها بلدان العالم، التي أنفقت مساعدات بمليارات الدولارات لإنقاذ الأسر، والشركات المتضررة، وتفادي تدمير ملايين الوظائف، جراء شلل الإغلاقات الذي ضرب النصف الأول من العام الجاري، فيما تشير أحدث تقديرات صندوق النقد الدولي، إلى أن الدين العالمي سيلامس مستوى تاريخيا غير مسبوق بنحو 101.5 في المائة من الناتج المحلي الاجمالي العالمي، أي أكثر مما بلغ عقب الحرب العالمية الثانية، وهذا يعني أن إجمالي ديون العالم سيتجاوز 76 تريليون دولار، متخطياً ضعفي مستوى 34 تريليون دولار المسجل قبيل الأزمة المالية العالمية في عام 2008.
يشير التحليل التاريخي لقضية الديون إلى أن مستويات الدين العالمي آخذة في الارتفاع منذ ثمانينيات القرن الماضي، بفعل مشكلات هيكلية كامنة في الاقتصاد الدولي، لكن، تعامل الدول مع الأزمة الراهنة كان مختلفاً تماماً، إذ أن الأمر لم يشكل مشكلة عويصة للبلدان المُتقدّمة في شرق آسيا وأوروبا وأمريكا
الشمالية، فأصدرت سندات بتريليونات الدولارات وبفائدة متدنية للغاية، فانقض المستثمرون المتوترون على هذه السندات، التي تتحول خلال الأزمات الصعبة إلى استثمارات براقة وآمنة مهما كان سعرها.
في المقابل، كانت القصة دراماتيكية ومختلفة تماماً في الدول الأشد فقراً، والتي تعد الأكثر عرضة لبطش الديون المفرطة، فقد أجبرتها الجائحة على الاقتراض وزيادة الإنفاق، ربما أكثر من الدول الغنية، لتخفيف حدّة الأزمة، لكنها افتقدت الحماس والإقبال من المستثمرين على شراء سنداتها، فاضطرت للجوء إلى صندوق النقد الدولي للحصول على مساعدات طارئة، والذي وافق بالفعل على 25 منحة رئيسة لأفقر الدول، من أصل 100 دولة تقدمت بطلب المساعدة، وعلى ما يبدو فإن الصندوق سيعجز وحده عن تلبية احتياجات التمويل الهائلة، التي يتوقع أن تتجاوز 2.5 تريليوني دولار.
باختصار، فإن تسونامي الديون السيادية الرهيبة يهدد تعافي الاقتصاد العالمي، وعندما تقع الفقاعة سيكون خيار الدائنين قاسٍ جداً، حيث يتعين عليهم إما الانخراط في عملية مُنَظَّمة لتخفيف عبء الديون، وإما اقتياد الدول المتعثرة إلى الزاوية، بمعني أن يطالب هؤلاء
الدائنين بسداد أموالهم بشكل فوري، مما سيؤدي إلى إطلاق موجة كارثية من التخلف عن السداد، وحينها سيتوجب على تلك الدول الاختيار الصعب بين سندان إنقاذ شعوبها، أو مطرقة خدمة ديونها، ولا شك أن أحد أكثر الأشياء المخيفة للمدينيين، هو أن رقبتهم متوازنة على حافة السكين، فإذا فقدوا أي مصدر للدخل، فإن الأمر برمته يتهاوى.
تعد الأرجنتين ولبنان، من أكثر الدول المرشحة للتخلف عن السداد، ففضلاً عن أنهما كانتا عاجزتين عن اقتراض أموال إضافية من الأسواق الدولية قبل تفشّي الوباء، فقد باتا الآن أشد عجزاً من ذي قبل بفعل أزمة الجائحة، وهروب الاستثمارات الأجنبية، وانهيار العملة المحلية، وبالتأكيد فإنه مالم تنتعش أسواق التصدير وأسعار السلع بسرعة فإن الأمر مرشح للتدهور، وحتى الدول التي تخلت عن الإنفاق الضروري على القطاع الصحي، وحزم الإنعاش الاقتصادي يُمكن أن ينتهي بها المطاف إلى التخلّف عن سداد ديونها.
تفادياً لسلسلة كارثية من التخلّف عن السداد، يتعين على الحكومات المتعثرة والدائنين من القطاع الخاص تقاسم عبء تخفيف الديون، وهذه مسألة تتعلّق بالعدل وضمان التمويل الكافي، ولكن السؤال هنا: ماذا سيحدث إذا قرر
بعض الدائنين الصمود والتقاضي بشأن المبالغ غير المدفوعة؟، وباعتقادي، فإن هذا الأمر غير مرجح، لأن مطالبات أي دائن فردي ستكون صغيرة، إذ ستقتصر على عدة ملايين ولن تصل للمليارات، وربما يكون المبلغ لا يستحق عناء التقاضي، كما أن محاولة بعض الدائنين استغلال فشل الدولة في السداد، يعني دفعها إلى أزمة ديون لا رجعة فيها، وهو أمر لا يرغب فيه أحد، ولن يفيد الدائن بشيء، والأهم من ذلك أن الدائنين لن يجدوا على الأرجح سلطة قضائية دولية مُتعاطفة معهم في مواجهة دولة متعثرة جراء الفيروس المميت وتداعياته الاقتصادية، إذ يُمكن التذرّع قانوناً بمبدأ الضرورة لتبرير تعليق مؤقت لخدمة الدين، والذي يسمح للدول التي تواجه أوضاعاً كارثية بالإنفاق على الصحة وتعويض الأضرار الاقتصادية الفادحة بدلاً من خدمة ديونها.
خاص_الفابيتا