قرار تاريخي لافت اتخذه وزراء مالية مجموعة العشرين الأربعاء الماضي في مثل هذه الظروف العصيبة، وذلك بتجميد ديون الدول الأشد فقراً بدءا من أول مايو وحتى نهاية العام الجاري، حيث يتيح هذا القرار الإنساني الفرصة أمام تلك الدول للاستفادة من أكثر من عشرين مليار دولار في الإنفاق على أنظمتها الصحية ومساعدتها على اجتياز التسونامي الاقتصادي الذي أطلقته جائحة فيروس كورونا، وقد دفع تحرك مجموعة العشرين، دائنو القطاع الخاص بشكل طوعي إلى التخفيف من ديون مشابهة للدول المعدومة بنحو ثمانية مليارات دولار.
لكي ندرك أهمية هذا القرار الرحيم، الذي لم يكن من الممكن تصوره قبل عدة أشهر فقط، فسنضرب مثالاً واحداً على ذلك بدولة إفريقية مهمة هي غانا التي سيمكنها الإعفاء من سداد ديونها في مواعيد استحقاقه، من تقديم 20 دولارا شهريا إلى كل أطفال البلاد البالغ عددهم 16 مليونا، وإلى المعوقين والمسنين وذلك لمدة ستة أشهر، وهذا يعني أن هذه الأزمة غير المسبوقة أفرزت عدوى الخوف الجماعي لدى كافة دول العالم في نفس الوقت ومن ذات الشيء، وستكون عواقبها دائمة، وأكثر كثافة من أزمة 2008، أو هجمات 11 سبتمبر 2001.
مع تفجر فقاعة الديون عقب الأزمة المالية العالمية في عام 2008، لم تكن الدول الفقيرة وحدها بحاجة إلى قروض تتجاوز قدراتها الإنتاجية، ومن ثم جاهزيتها للسداد لاحقاً، وخير مثال على ذلك اليابان ثالث أكبر اقتصاد عالمي والتي اقترضت واقترضت واقترضت حتى بلغت نسبة ديونها 238% من إجمالي الناتج المحلي، متجاوزة 10 تريليونات دولار، الأمر الذي أدى بالنهاية إلى إعاقة النمو الاقتصادي والتوظيف سواء في الدول الغنية أو الدول الفقيرة، فاضطرت حكومات العالم إلى اقتراض 30 تريليون دولار، والشركات على 25 تريليون دولار، بينما اقترضت الأسر 9 تريليونات دولار، وحصلت البنوك العالمية على تريليوني دولار، وفي العام الماضي تحديداً سجل الدين العالمي رقماً قياسي ملامساً 255 تريليون دولار، أي أن نصيب كل فرد منها على كوكب الأرض يعادل حوالي 32 ألفا و500 دولار، ويزيد هذا الرقم على ثلاثة أمثال الناتج الاقتصادي السنوي للعالم، لكن اللافت هنا، هو أن أكبر اقتصاديان في العالم يستحوذان على نسبة مخيفة من تلك الديون، إذ يصل الدين الأمريكي إلى 23 تريليون دولار، بينما تلامس ديون الصين40 تريليون دولار ، أي أنهما يشكلان معاً 33.5% من إجمالي الدين العالمي.
ويسلط قرار مجموعة العشرين الضوء على سؤالين رئيسيين وهما: ما هو حجم الأضرار التي قد تلحق بالدول الفقيرة جراء الأزمة الاقتصادية الراهنة التي خلفها الفيروس القاتل؟ وما هي الاجراءات الضرورية لتجنب تحول الأزمة المالية إلى أزمة إنسانية في هذه الدول؟، ما من شك في أن البلدان شديدة الفقر مقبلة على فترة عصيبة نتيجة لانتشار الفقر والجهل والمرض وتفاقم الديون والاعتماد على الاستيراد والاستهلاك بشكل أساسي وضعف التنمية واستشراء الفساد، وسط نظام صحي بالغ التواضع، ولهذا فإن معاناة تلك الدول ستستمر على المديين القريب والبعيد، وسيكون الأطفال والنساء والعجائز أكثر المتضررين من الصدمات الاقتصادية بسبب عدم وجود أنظمة معتبرة للحماية والعدالة الاجتماعية في تلك الدول.
من المنتظر أن تضرب توابع الزلزال الاقتصادي البلدان الأشد فقرا، خاصة في ظل توقعات صندوق النقد الدولي بانكماش اقتصادي وشيك في منطقة الشرق الأوسط وشمال إفريقيا بنحو 3.3 % هذا العام، وهي مناطق يتركز فيها عدد لا بأس به من فقراء العالم، الأمر الذي يعني تفاقم مستويات الفقر بين مئات ملايين الأشخاص الذين يرزحون تحته عباءته منذ سنوات طويلة، وسيسفر الأمر في النهاية عن اختناق مالي رهيب ستكون الدول الفقيرة وبخاصة في أفريقيا مسرح أحداثه، حيث توصف القارة السمراء بأنها "قارة الجوعى" التي طالما كانت معرضاً متكرراً لصور رهيبة عن المجاعات المهلكة والأوبئة الفتاكة، وسيؤدي ارتفاع أسعار الغذاء نتيجة تأثر سلاسل الإمدادات العالمية إلى تفاقم أوجاع المحرومين من الطعام وأساسيات الحياة في هذه الدول الضعيفة.خاص_الفابيتا