دائما أتساءل، لماذا نلاحظ ظهور الشركات التي تسمى مخربة Disruptive "التي باختصار شديد تتميز بتغييرها لقواعد اللعبة في القطاعات التي تستهدفها عبر تقنيات أو منتجات ثورية أو نظام عمل مبتكر تماما" في أمريكا بشكل رئيس والدول المتقدمة بشكل عام، وقليلة الحدوث في عالمنا العربي؟
أعتقد للإجابة عن هذا السؤال، لابد من استعراض عدة مسببات لها، منها البيئة المحفزة في جميع نواحيها، والتعليم، والقوانين والتشريعات وغيرها كثير. لكن أنا هنا أريد التركيز على واحدة من هذه المسببات، التي أعتقد أنها تحتاج إلى نقاش وتوعية، ألا وهي العقلية الاستثمارية والإدارية المناسبة لظهور هذه الشركات. ولعلي هنا أستفيد من كتابات رائد الأعمال أريك ريس حول هذا الموضوع، حيث إنها تتطلب نمطا مختلفا في الإدارة عما هو موجود اليوم. إن الإدارة التقليدية، التي هي المسيطرة اليوم، ترتكز على عدة صفات، منها اتباعها واعتمادها على موازنة وأهداف المبيعات بالطريقة التقليدية، والتحكم في التكاليف، والبحث عن النمو الثابت، الأمر الذي يولد ضغطا مستمرا على المديرين والموظفين، حيث تتم مراجعة الأداء بشكل ربعي.
بالنموذج الإداري التقليدي يتم تأسيس إدارات للخدمات المساندة والاستثمار فيها، مثل إدارة التقنية والموارد البشرية والمالية والقانونية ودمجها ضمن الهيكل الإداري، أما فيما يخص المشاريع، فيتم اختيارها وترتيبها على حسب الأولية بناء على المؤشرات المالية التقليدية المستقبلية المتوقعة لها، كذلك في المشاريع يتم البحث غالبا عن المشاريع الكبيرة، التي تحسب للإدارة في إنجازها، كذلك الهيكل الإداري يتكون من مديرين ومرؤوسين تحتهم، وتدفق العمل يكون مثل سريان الشلال من الأعلى إلى الأسفل. في الإدارة التقليدية الكفاءة تعني أن جميع الموظفين مشغولون طيلة الوقت! أخيرا، في هذا النوع من الإدارة، الفشل ليس خيارا، فلا يقبل به، ومن يفشل يخرج من المنظومة غالبا.
هذه نماذج للعقلية الإدارية أو الاستثمارية التقليدية "أذكر الاثنين، لأن تداخل الصفات وترابطها موجودة لدى النوعين: الإدارية والاستثمارية"، التي من الصعب جدا أن يظهر من خلالهما شركات أو أفكار أو منتجات مخربة أو مدمرة تنجح في تغيير خريطة السوق وتخلط أوراق اللعب مثل Uber Airbnb، Spotify، Amazon، Netflix، Zipcar وغيرها كثير. كل هذه الشركات لا يمكن لها أن تظهر إلى الوجود تحت إدارات واستثمارات بعقليات تقليدية أبدا، حيث إن كل هذه الشركات كانت أفكارا في رؤوس أصحابها أو من هم خلفها، وعانت كثيرا كي يتم تطويرها، وعانت كذلك كثيرا من الخسائر في السنين الأولى، وقد تمتد إلى أكثر من سبع سنوات تحقق فيها خسائر متوالية تأكل كل التمويل الذي تحصل عليه حتى استطاعت في وقت ما أن تتوقف من الخسائر وتبدأ عملية النمو الكبير في الأرباح، وهو الشيء الذي لا يمكن أن تقبله العقلية التقليدية. "أمازون" على سبيل المثال "التي يعمل لديها اليوم أكثر من نصف مليون موظف، وسادس أكبر شركة أمريكية بقيمة سوقية تتجاوز 800 مليار دولار"، استغرقت أكثر من سبع سنوات حتى حققت أول أرباح ربعية في تاريخها!
إذن، ما نوع الإدارة المناسبة، التي من الممكن أن تكون حاضنة لمثل هذه الشركات؟ هي الشركات التي يكون كل موظف فيها رائدا ومبادرا، وتحرص الإدارة أن تكون البيئة محفزة لها، تستثمر هذه الشركات على النتائج للمدى البعيد عبر مشاريع نوعية لا يرتكز تقييمها في البدايات على المؤشرات المالية ولا في الحصص السوقية أو غيرها من الطرق التقليدية، الهيكل الإداري عبارة Cross-functional teams فرق متعددة المهام على خلاف الطرق التقليدية، هذه الإدارات تعمل على نموذج التجارب السريعة والتعديل المستمر، كذلك لا تستثمر في توظيف إدارات مساندة للموظفين "مثل إدارات التقنية والموارد البشرية والمالية" بل تركز على الاستثمار في خدمة العملاء، تركز هذه الإدارات في قياس تقدم مشاريعها على مؤشرات مستقبلية أكثر تطورا وفاعلية في المحاسبة من الطرق التقليدية، مثل مدة استرجاع رأس المال أو العائد على رأس المال وغيرها. هذه المؤشرات تخدم الشركة لقياس مدى التأثير مستقبلا، ويكون العميل هو المحور فيها.
فهذه الإدارات تتكون غالبا من قادة ومبادرين بدلا من مديرين ومرؤوسين، تجري عديدا من التجارب الذكية "للمنتجات والخدمات"، بحيث تسيطر على تكاليف التجارب "المشاريع" الخاسرة بتحويلها إلى الرابحة والاستفادة من تجارب وخبرة من فشلت مشاريعهم أو تجاربهم، على عكس الشركات والإدارات التقليدية. معنى الكفاءة لدى هذه الإدارات هو أن تجد حلا للمشاكل والعمل لإنجاح التجارب والمشاريع لخدمة العملاء بأي طريقة كانت. أخيرا، هذه العقليات الإدارية تتفوق على منافسيها عبر التطوير المستمر والابتكار والإبداع. طبعا لا يعني هذا أنني أدعو جميع المستثمرين أو الشركات إلى التحول إلى هذه الطريقة في الإدارة، إنما أستعرضها هنا في سياق الشركات التي تهدف إلى استثمارات أو مشاريع بنماذج عمل غير تقليدية أو منتجات وخدمات والتقنيات المدمرة التي تغير الأسواق وقوانين اللعب.
ختاما، وبعد كل هذا الاستعراض للفروقات، التي أتمنى أنها كانت واضحة رغم الاختصار، أسأل هذا السؤال وأترك الإجابة للقارئ الكريم: هل تعتقد أنه يوجد لدينا اليوم حقا مستثمرون أو إدارات أو شركات لديها صفات العقلية غير التقليدية تستطيع أن تخرج لنا شركات سعودية بنماذج عمل أو تقنيات أو منتجات جديدة "مخربة أو مدمرة Disruptive" تنتشر إلى العالم، كما يحدث في أمريكا وغيرها؟
نقلا عن الاقتصادية
أعتقد للإجابة عن هذا السؤال، لابد من استعراض عدة مسببات لها، منها البيئة المحفزة في جميع نواحيها، والتعليم، والقوانين والتشريعات وغيرها كثير. لكن أنا هنا أريد التركيز على واحدة من هذه المسببات، التي أعتقد أنها تحتاج إلى نقاش وتوعية، ألا وهي العقلية الاستثمارية والإدارية المناسبة لظهور هذه الشركات. ولعلي هنا أستفيد من كتابات رائد الأعمال أريك ريس حول هذا الموضوع، حيث إنها تتطلب نمطا مختلفا في الإدارة عما هو موجود اليوم. إن الإدارة التقليدية، التي هي المسيطرة اليوم، ترتكز على عدة صفات، منها اتباعها واعتمادها على موازنة وأهداف المبيعات بالطريقة التقليدية، والتحكم في التكاليف، والبحث عن النمو الثابت، الأمر الذي يولد ضغطا مستمرا على المديرين والموظفين، حيث تتم مراجعة الأداء بشكل ربعي.
بالنموذج الإداري التقليدي يتم تأسيس إدارات للخدمات المساندة والاستثمار فيها، مثل إدارة التقنية والموارد البشرية والمالية والقانونية ودمجها ضمن الهيكل الإداري، أما فيما يخص المشاريع، فيتم اختيارها وترتيبها على حسب الأولية بناء على المؤشرات المالية التقليدية المستقبلية المتوقعة لها، كذلك في المشاريع يتم البحث غالبا عن المشاريع الكبيرة، التي تحسب للإدارة في إنجازها، كذلك الهيكل الإداري يتكون من مديرين ومرؤوسين تحتهم، وتدفق العمل يكون مثل سريان الشلال من الأعلى إلى الأسفل. في الإدارة التقليدية الكفاءة تعني أن جميع الموظفين مشغولون طيلة الوقت! أخيرا، في هذا النوع من الإدارة، الفشل ليس خيارا، فلا يقبل به، ومن يفشل يخرج من المنظومة غالبا.
هذه نماذج للعقلية الإدارية أو الاستثمارية التقليدية "أذكر الاثنين، لأن تداخل الصفات وترابطها موجودة لدى النوعين: الإدارية والاستثمارية"، التي من الصعب جدا أن يظهر من خلالهما شركات أو أفكار أو منتجات مخربة أو مدمرة تنجح في تغيير خريطة السوق وتخلط أوراق اللعب مثل Uber Airbnb، Spotify، Amazon، Netflix، Zipcar وغيرها كثير. كل هذه الشركات لا يمكن لها أن تظهر إلى الوجود تحت إدارات واستثمارات بعقليات تقليدية أبدا، حيث إن كل هذه الشركات كانت أفكارا في رؤوس أصحابها أو من هم خلفها، وعانت كثيرا كي يتم تطويرها، وعانت كذلك كثيرا من الخسائر في السنين الأولى، وقد تمتد إلى أكثر من سبع سنوات تحقق فيها خسائر متوالية تأكل كل التمويل الذي تحصل عليه حتى استطاعت في وقت ما أن تتوقف من الخسائر وتبدأ عملية النمو الكبير في الأرباح، وهو الشيء الذي لا يمكن أن تقبله العقلية التقليدية. "أمازون" على سبيل المثال "التي يعمل لديها اليوم أكثر من نصف مليون موظف، وسادس أكبر شركة أمريكية بقيمة سوقية تتجاوز 800 مليار دولار"، استغرقت أكثر من سبع سنوات حتى حققت أول أرباح ربعية في تاريخها!
إذن، ما نوع الإدارة المناسبة، التي من الممكن أن تكون حاضنة لمثل هذه الشركات؟ هي الشركات التي يكون كل موظف فيها رائدا ومبادرا، وتحرص الإدارة أن تكون البيئة محفزة لها، تستثمر هذه الشركات على النتائج للمدى البعيد عبر مشاريع نوعية لا يرتكز تقييمها في البدايات على المؤشرات المالية ولا في الحصص السوقية أو غيرها من الطرق التقليدية، الهيكل الإداري عبارة Cross-functional teams فرق متعددة المهام على خلاف الطرق التقليدية، هذه الإدارات تعمل على نموذج التجارب السريعة والتعديل المستمر، كذلك لا تستثمر في توظيف إدارات مساندة للموظفين "مثل إدارات التقنية والموارد البشرية والمالية" بل تركز على الاستثمار في خدمة العملاء، تركز هذه الإدارات في قياس تقدم مشاريعها على مؤشرات مستقبلية أكثر تطورا وفاعلية في المحاسبة من الطرق التقليدية، مثل مدة استرجاع رأس المال أو العائد على رأس المال وغيرها. هذه المؤشرات تخدم الشركة لقياس مدى التأثير مستقبلا، ويكون العميل هو المحور فيها.
فهذه الإدارات تتكون غالبا من قادة ومبادرين بدلا من مديرين ومرؤوسين، تجري عديدا من التجارب الذكية "للمنتجات والخدمات"، بحيث تسيطر على تكاليف التجارب "المشاريع" الخاسرة بتحويلها إلى الرابحة والاستفادة من تجارب وخبرة من فشلت مشاريعهم أو تجاربهم، على عكس الشركات والإدارات التقليدية. معنى الكفاءة لدى هذه الإدارات هو أن تجد حلا للمشاكل والعمل لإنجاح التجارب والمشاريع لخدمة العملاء بأي طريقة كانت. أخيرا، هذه العقليات الإدارية تتفوق على منافسيها عبر التطوير المستمر والابتكار والإبداع. طبعا لا يعني هذا أنني أدعو جميع المستثمرين أو الشركات إلى التحول إلى هذه الطريقة في الإدارة، إنما أستعرضها هنا في سياق الشركات التي تهدف إلى استثمارات أو مشاريع بنماذج عمل غير تقليدية أو منتجات وخدمات والتقنيات المدمرة التي تغير الأسواق وقوانين اللعب.
ختاما، وبعد كل هذا الاستعراض للفروقات، التي أتمنى أنها كانت واضحة رغم الاختصار، أسأل هذا السؤال وأترك الإجابة للقارئ الكريم: هل تعتقد أنه يوجد لدينا اليوم حقا مستثمرون أو إدارات أو شركات لديها صفات العقلية غير التقليدية تستطيع أن تخرج لنا شركات سعودية بنماذج عمل أو تقنيات أو منتجات جديدة "مخربة أو مدمرة Disruptive" تنتشر إلى العالم، كما يحدث في أمريكا وغيرها؟
نقلا عن الاقتصادية
تسلم استاذ عبدالله الربدي على هذه المقالات المميزة الله يحفظك