في التسعينات من القرن الماضي، كانت بداية شركات الإنترنت التي أطلق عليها بالاقتصاد1 ((Economy 1.0، وألتي كانت بداية إنطلاق عصر جديد من الإقتصاد الذي نشأ على الإنترنت والمواقع الإلكترونية والإيميل، أنتهى ذلك العصر. وبسبب التطور التقني والتكنولوجي السريع، بدأ عصر أخر جديد يطلق عليه بإلإقتصاد2 (Economy 2.0) عهد مكمل للعصر الأول، لكن محركه الأساسي هو الإبتكارات. الإبتكارات ألتي تقوم على تخزين وتحليل البيانات، وإستخدام الذكاء الإصطناعي، والبلوك تشين، والبرمجة، وألتي تعمل من خلال تطبيقات وبرامج الهواتف الذكية والأيباد. باتت اليوم هذة الإبتكارات تمثل تهديداً للقطاعات القائمة التقليدية، أحد أهم هذة القطاعات هو القطاع المالي. فظهور التكنولوجيا أو التقنية المالية أو ما يطلق عليها بفِن تك (FinTech) أصبحت تهدد القطاع المالي والمصرفي، بتقديم خدمات ومنتجات مالية منافسة، وبسرعة وكفاءة عالية، وبتكلفة أقل.
فبحسب دراسة حديثة لإكسنشر للاستشارات، تتوقع أنه مع حلول عام 2020 سوف تخسرالبنوك التقليدية ما يقارب 35% من حصتها السوقية، بسبب إزدهارالبنوك والمؤسسات المالية الناشئة ( (Startupsفي الدول المتقدمة، تهديد هذة البنوك التقليدية لا يقتصربإنخفاض حصتها السوقية فقط، بل أيضاً يشمل الإستغناء عن بعض موظفيها، بسبب تغيير المهارات والشهادات المطلوبة لوظائف البنوك في المستقبل، وألتي سوف يكون إعتمادها أكثر على التكنولوجيا. فبحسب دراسة لستي بنك أيضاً، يتوقع فيها أنه في خلال العشر سنوات القادمة سوف تختفي 30% من وظائف البنوك التقليدية، وبعض الخبراء الاخرين يتوقعون بأكثر من ذلك عند 50%.
أيضاً الخدمات والمنتجات المقدمة من البنوك التقليدية مازالت معقدة بعض الشيء، ولا تلبي رغبات وإحتياجات العصر الإقتصادي الجديد، أحدى الدراسات تشير إلى أن 70% من الشباب يفضلون الذهاب إلى طبيب الأسنان على أن يذهبوا إلى البنوك، إرتفاع الرسوم، وعدم الشفافية إيضاً، وعدم وضوح معدل الفائدة والعمولة في بعض الأوقات، جعلت الفجوة بين البنوك التقليدية وبين عملائه في تصاعد مستمر، أيضاً زيادة عدد المستخدمين للهاتف الذكي والتطبيقات في العالم، كل هذة الإسباب ساعدت في بروز هذة التقنية المالية للبحث عن الفرص وتقليص الفجوة، وتلبية إحتياجات العملاء الجدد من الشباب، الشريحة المستهدفة والأكبر من التركيبة السكانية، بإلاضافة إلى الشركات المتوسطة والصغيرة.
فِن تك (FinTech) هي إختصار لكلمة التقنية المالية ((Financial Technology، وتعرف بأنها إبتكار تقني مالي ينتج عنه نموذج أعمال (Business Models) أو عمليات لمنتجات أو خدمات جديدة، لها تأثير على الأسواق والبنوك والمؤسسات المالية.
فنموذج الأعمال لشركات الفن تك مختلف عن البنوك التقليدية، فهي لا تحتاج إلى الإنفاق الرأسمالي الضخم مثل المباني وفتح عدد من الفروع لجذب العملاء، ولا تحتاج أيضاً إلى دفع مصاريف مرتفعة على التسويق والإدارة، فإعلانتها غالباً عن طريق مواقع التواصل، وتستخدم كميات قليلة جداً من الورق والمصاريف الإدارية الأخرى، فمثلاً أوتم بنك (Atom Bank) البريطاني، لا يوجد لديه أي فرع، بل أن جميع أعماله وخدماته تتم عن طريق التطبيق الخاص بالبنك، أوعن طريق الهاتف المصرفي، وكلاهما يعمل 24/7. لذلك فإن هامش الربح لدى هذة الشركات مرتفع جداً مقارنة مع البنوك التقليدية، والذي يترواح بين 40% و 60% خاصة في بعض الأسواق الناشئة مثل الصين وأستراليا، بسبب النمو والطلب الكبير على هذة الشركات. فالبيانات هي رأس المال الحقيقي لشركات الفِن تك، بإلإضافة إلى المعرفة بالخوارزميات والتحليل الإحصائي التجريبي، والبرمجة وموقع على منصة السحابة الإلكترونية، والخبرة الإقتصادية والمهارة المالية والإستراتيجيات، والدمج بين كل ذلك.
إيضاً يوفر نموذج أعمال الفن تك لعملاءه كثير من الوقت والجهد، وسرعة التعامل وسهولة التواصل في أي وقت، فمثلاً الحصول على التمويل أوقرض شخصي يستغرق فقط 3 ثواني، عن طريق تطبيق الشركة من على الهاتف المحمول أو الأيباد، لذلك لا يحتاج العميل الذهاب إلى البنك خلال ساعات العمل المحددة، أوالإنتظارطويلاً للتحدث مع أحد موظفي البنك!.
أما عن الخدمات والمنتجات التي تقدمها شركات الفِن تك فهي كثيرة ومتنوعة، ومختلفة من شركة إلى أخرى، فبعض الشركات تقدم التمويل الشخصي للإفراد لشراء الأغراض المنزلية أوالأجهزة الألكترونية، والبعض الاخر تقوم بإقراض الشركات المتوسطة والصغيرة أو بتمويل المشاريع الخاصة، وهناك شركات تقوم بخدمات إستثمارية مثل إدارة الأصول والثروات أوالإستشارات، أو فتح حساب للإدخار، أو فتح محفظة إستثمارية لبيع وشراء أسهم الشركات، أو حتى المشاركة في صناديق الشركة الإستثمارية التي تعمل عن طريق الإستثمارالآلي (Automation Investment) بإستخدام الذكاء الإصطناعي والروبوتات، مثل شركة ويلث فرونت الأمريكية ( .(Wealthfrontوغيرها من الخدمات، مثل تحديد درجة الإئتمان للإفراد أو للشركات المتوسطة والصغيرة، أو تمويل الشركات عن طريق رأس المال الجرئ Venture Capital))، كل ذلك عن طريق الهاتف المحمول والتطبيقات الخاصة بشركات الفِن تك، أو البنوك الجديدة الناشئة.
بل أن الأن، يعتبر صندوق موني ماركت فاند الصيني ((Money Market Fund هو ثالث أكبر صندوق إستثماري في العالم من حيث عدد المشتركين أو المساهمين، حيث بلغ عدد المستثمرين به 150 مليون مستثمر، بمتوسط 1000$ لكل مستثمر، وهو أحد صناديق شركة آنت المالية ( (Ant Financialالذراع المالي لشركة علي بابا الصينية الشهيرة. ويتم الإشتراك أو الإستثمار به عن طريق التطبيق الخاص بالشركة، ولا يوجد به حد أدنى للإشتراك أو للإستثمار. بإلاضافة إلى تقديمه منتجات أخرى مثل التأمين على المنزل أو السيارة، أو الدفع الإلكتروني عن طريق تطبيق (AliPay).
هنا يجب أن أشير إلى التقرير السنوي الذي صدر مؤخرأ عن مؤسسة فينشير H2 لأفضل 100 شركة ناشئة (Startups) في التكنولوجيا المالية في العالم، حيث رصد التقرير 29 دولة تحتضن هذا العدد من الشركات الناشئة والإبتكارات، من أشهر هذة الدول الصين وأمريكا وبريطانيا وأستراليا وألمانيا وغيرها، وكان الرصيد الأكبر بين هذة الدول هو للصين، بعدد 10 شركات، حصلت 3 منها على المراكز الثلاث الأولى من القائمة، وهي بترتيب، شركة اّنت المالية (Ant Financial) ، وشركة زوهونق ان للتأمين (ZhongAn) ، وشركة كودين المالية .(Qudian)
هذا التفوق الصيني لم يأتي بمحض الصدفة، بل نتيجة السياسات الحكومية أبتداء من التعليم وتخريج الكفاءت، ونهاية بجذب رؤس الأموال والإستثمارات الخارجية، بإختصار هو نتيجة نظام بيئي Ecosystem)) ناجح وفعال، في إحتضان مثل هذة الإبتكارات وتنميتها. ففي عام 2016، من 75% إلى 80% من حجم الإستثمارات VC)) في العالم ذهبت إلى الإستثمار في صناعة الفِن تك، مما يدل على أهمية هذة الصناعة ومدى التأثير المتوقع لها مستقبلاً. ومن نفس العام أيضاً، أحتلت الصين المرتبة الأولى في جذب وضخ إستثمارات بقيمة 7 مليار دولار في مجال الفِن تك، متجاوزة بذلك أمريكا بإكثر من 1.5 مليار دولار، التي جاءت في المرتبة الثانية حسب مجلة الخبيرالإقتصادي The Economist))، بعض هذة الإستثمارات جاءت عن طريق صناديق البنوك العالمية مثل البنك الصيني الدولي وجيبي مورقان كردة فعل للتطور أو بإلاستحواذ عليها مستقبلاً، البعض الأخر جاء عن طريق رأس المال الجرئ VC)) للشركات العالمية مثل شركة علي بابا وتنسينت الصينية، أو للصناديق السيادية مثل صندوق الإستثمارات العامة السعودي عن طريق صندوق رؤية سوفت بنك.
وأخيراً لم أتفاجأ بعدم وجود العملة الرقمية أو ما يسمى بالبتكوين من ضمن هذة القائمة، فهي ليس لها قيمة وغير مرخصة من الدول. فهي ليست سلعة ولا تحقق أي منفعة، ولا تقدم أي خدمة أو منتج، وتستخدم غالباً في غسيل الأموال والمضاربة فقط، كما جاء ذلك على لسان أشهر الخبراء الماليين والإقتصاديين في العالم، مثل ألن غريسبان وجيمي دايمون وجوزيف ستيجلز، فهي مجرد فقاعة، أجلاً أم عاجلاً، ولهذة الإسباب لم تكن من ضمن القائمة. على عكس شركات الفِن تك، التي نالت رخصة من الدول وتعمل تحت رقابة بنكها المركزي، لذلك فهي آمنة في تقديم الخدمات والمنتجات المالية كبديل للبنوك التقليدية ومنافسة لها، بإستخدام التقنية المتطورة وبطريقة مبتكرة تواكب العصر الإقتصادي الجديد.