إعادة هيكلة الاقتصاد السعودي

13/11/2017 0
فيصل العبيسي

دأبت المملكة العربية السعودية وبقياداتها الرشيدة على مر العقود في السعي الدؤوب لترسية اقتصاد قوي ينعم فيه المواطن بالرفاهية ومستوى معيشي لائق. فكانت المحاولة جادة ومستمرة، فمنذوا طفرة السبعينات الاقتصادية وحتى السنوات القليلة الماضية والمساعي جادة لرفع مستوى المعيشة.

التطور ملحوظ ولا يمكن انكاره، والازدهار مشاهد على ارض الواقع ولكن وبالرغم من ذلك ضلت المتغيرات الاقتصادية السعودي تحقق نتائجاً أقل من المأمول. تدل المؤشرات الاقتصادية على نمو الاقتصاد السعودي ولكن مكونات الاقتصاد لم تتغير.

هذا وبالإضافة لهذه المشكلة (مكونات الاقتصاد) فإن العائد المتوقع من كل الخطط الخمسية والإجراءات الاقتصادية التي سعت بشكل جاد لترسية دعائم اقتصاد يضع نفسه على خارطة العالم كان اقل من الطموح. وبالرغم من تحقيقها للعديد من اهداف البنية التحتية الا انها لم تغير جوهر الاقتصاد السعودي وهو الاعتمادية على النفط. فقصة النجاح التي أصبحت أكبر عوائق النجاح، الذهب الأسود الذي غير وجه المملكة العربية السعودية هو ما يعيق تقدم المملكة العربية السعودية. فهذا وجه من وجوه مشكلة الاقتصادي السعودي ولكن الوجوه متعددة. سأتطرق لبعض مشاكل الاقتصاد السعودي. 

وأبدأ ذلك بالحديث عن النفط وعجز الاقتصاد السعودي في الماضي عن إيجاد بديلا فاعلاً. لم تكن المشكلة في الاقتصاد السعودي فقط ان النفط هو المكون الأساسي والعصب الحقيقي للاقتصاد ولكن انتاج النفط كان يشوبه الكثير من فقد الكفاءة. فعند ارتفاع أسعار النفط فعائد النفط اقل من المطلوب مما لو كانت الظروف مختلفة، وعند انخفاض النفط فتكاليف الاقتصاد ترهق وتُثقل بما هو ليس جزئاً من التكاليف. فقد واجه الاقتصاد السعودي العديد من قضايا تهريب النفط واستغلال أسعار النفط المدعومة في تحقيق ربح شخصي.

وبهذا فإنه ليس فقط ان الاقتصاد السعودي لم يستطع ان ينهي اعتماديته على النفط بل ما يستحصل عليه من أرباح النفط قد طالتها ايدي العابثين من كيانات او اشخاص. ضعف كفاءة عائدات النفط لا يقصد به ان العائد لم يكن كبير او غير مجد، ولكن كفاءة عائدات النفط يقصد بها ان يكون عائد النفط يضاهي توقعات عائدات النفط لا من الناحية السعرية ولكن من الكفاءة المحاسبية.

علاوةً على ما ذكرته عن مشكلتين النفط هناك مشكلة أخرى، وهي ارتفاع معدلات الهدر الاقتصادي المستمرة. في البداية ما هو الهدر الاقتصادي؟ يقصد بالهدر الاقتصادي هو توجيه المصروفات (الانفاق الحكومي) في اتجاه يحقق عائداً اقل مما لو تم توجيه هذه المصروفات في اتجاه آخر. ولمزيد من التوضيح.

عندما تصرف 10 ريال مقابل خدمة غسيل سيارتك فالبديهي إنك تتوقع ان يتم غسل السيارة، ولكن قد تغسل السيارة في مغسلة سيارات وتحصل على السيارة نظيفة أو تغسل السيارة في مغسلة أخرى فتحصل على السيارة نظيفة وفوق ذلك علبة مناديل ومعطر للسيارة وأكياس حماية لأرضية السيارة.

فعند انفاقك لل 10 ريال على غسيل السيارة في المغسلة الأولى فإنك تعاني من الهدر الاقتصادي لأنك سوف تتوجه للبقالة لشراء علبة مناديل وتتوقف عند المحطة لكي تشتري معطر للسيارة فبدلا من إنفاق 10 ريالات وتحصل على ذلك كله تحملت المزيد من المصاريف. وبهذا الوصف البسيط عن الهدر الاقتصادي نوضح الشكل الحقيقي المقصود منه بالهدر الاقتصادي، عندما تدعم الحكومة سلعة فإن المتوقع ان يكون الدعم موجة بشكل دقيق للفئة المستحقة للدعم. استمرت برامج دعم الصناعة على امل ان يكون عائد أداء الشركات الصناعية على المستوى المأمول منه.

ولكن هذا الدعم بكافة اشكاله قروض الصناديق الصناعية او دعم أسعار الطاقة، الا انه وباستثناء الشركات الصناعية الناجحة مثل سابك فعائد الشركات الصناعية الاقتصادي ومساهمتها في النمو الاقتصادي كان ضعيف.

وفي نفس الباب "الهدر الاقتصادي" وعن نفس الفئة الشركات الصناعية فان بعض الشركات استغلت الدعم الحكومي في تحقيق أرباح بالتلاعب على هامش الفرق بين الدعم والسعر السوقي. وتحولت من شركة صناعية الى شركة سمسرة ووسيط ومسهل مشتقات نفطية.

فلقد كان بالإمكان تحقيق أرباح اعلى من عائدات النفط، وكان بالإمكان الاستفادة أكثر من عائدات النفط لو كان توجيهها في اتجاه اخر. ولكن هنا تكون الدروس المستفادة. فلم يستطع الاقتصادي السعودي التخلص من اعتمادية على النفط وهذه الاعتمادية كانت تعاني من تقلبات أسعار النفط. كما ان عائدات النفط كانت تعاني من ضعف الكفاءة. وكما ان الاقتصادي لم يستطع التخلص من الهدر الاقتصادي المتزايد.

هل هذه هي المشكلة فقط؟ لا فإن المشكلة أكبر من ان يتم حصرها في مقال واحد. التضخم مشكلة أخرى، فالسياسة المالية للحكومة كانت ومازالت تعتمد على الانفاق في إنعاش الاقتصاد. وهذه السياسة لها أثر واضح على مؤشرات التضخم. وليست المشكلة في التضخم الذي ينتج عن الزيادة في الانفاق الحكومي فهذا متوقع ودائماً تتخذ بشأنه تدابير اقتصادية تُحيد تأثيره. ولكن المشكلة الحقيقية ان هذا التضخم الناتج عن الزيادة في الانفاق يؤدي الى ظاهرة أخرى وهي الأثر المضاعف للتضخم.

فعقود البنية التحتية التي يتم تقييمها بين فترة وأخرى على ضوء المؤشرات الاقتصادية تستغل مؤشرات التضخم في إعادة التقييم والمبالغة في تقييم آثار التضخم. أين المشكلة في إعادة التقييم وأين المشكلة في ذلك؟ إعادة التقييم عندما تهدف الى تحصيل عائد من إعادة التقييم فهذا ليس تماشيا مع المتغيرات الاقتصادية بل هو استغلال لهذه المؤشرات الاقتصادية. والمشكلة الحقيقية هي ان الهدر الاقتصادي يستدعي المزيد من المصروفات هذا من جهة، ومن جهة أخرى الانفاق الحكومي يؤدي الى المزيد من الانفاق الحكومي من أجل تحقيق الهدف.

وهذا كله يظهر على شكل تضخم في الموازنة وضعف في أدائها. والمثل الشعبي الدارج "قربة مشقوقة" ينطبق هنا بحذافيره فكل ما زاد الانفاق الحكومي تصاحب معه هدر أكبر وقابله تضخم أكبر. فمتى تستطيع الميزانية تحقيق اهدفها عدى عن ان يتمكن الاقتصاد من الوصول الى مراده وهي عدم الاعتمادية على النفط. 

ولا تقتصر المشاكل التي واجهها الاقتصادي السعودي على ذلك ولكن هذه أبرز الفجوات في التخطيط. وما ذكرته سابقا ما هو الا ما كان يرتبط بشكل مباشر بالاقتصاد والخطط الاقتصادية. واتطرق الان لجوانب أخرى لم يكن لها ارتباط مباشر بالسياسة المالية او العائدات الاقتصادية. فأي اقتصاد يعتمد على بنية تحتية تساعد الاقتصاد في تحقيق أهدافه، ولا تعدو البنية التحتية عن عقود انشائية يتم الانفاق عليها من خزينة الدولة أو تشريعات تنظم أنشطة إقتصادية. وبغض النظر عن نوع البنية التحتية او صفتها، فإن المتوقع من هذه البنية التحتية ان يكون لها اسهام في الرفع من كفاءة الاقتصاد السعودي.

ولكن المشكلة ان هذه البنية التحتية أصبحت حملاً ثقيلا على كاهل الاقتصاد. والحقيقة المزعجة جداً، ان البنية التحتية وبالرغم مما أنفق عليها، لم ترتقي للمستوى المنتظر. فخطوط الدعم اللوجيستي ضعيفة ومكلفة وبطيئة ومستغلة. مما أدى إلى ضعف عائدات الشركات الخدماتية وارتفاع التكاليف عليها، وبالتالي أدى إلى تأجيل التوسع الاقتصادي بسبب التوسع في برامج الدعم الحكومي. 

وتمضي العقود لتستمر القصة تعيد نفسها عاماً بعد عام. ولا يخلو الجهد من تحقيق نتائج، ولكن ومع اتساع الفجوات الاقتصادية والإدارية يزداد الحل صعوبة وترتفع فاتورة التكاليف. وتزداد المشكلة أكثر فأكثر حتى تصاب القطاعات الأخرى من الاقتصاد السعودي بالعدوى. فالشركات المدرجة خير مثال على ذلك. ففي طيات الشركات المساهمة المدرجة في السوق السعودي العديد والعديد من النماذج التي تعتبر مثالا حياً ومشاهداً.

هناك بعض الأمثلة التي يكفي ذكرها لتصور إلى أي مدى يعاني الاقتصاد. فمثلاً الشركة السعودية للاتصالات المتكاملة (إحتيال)، شركة بيشة للتنمية الزراعية لا تنموية ولا زراعية بل هي عبث واستهتار على المستوى العملياتي وأما على الصعيد المالي فلم تكن سوى حلم استغله ضعاف نفوس لاستدراج ضعاف عقول، شركة مجموعة محمد المعجل (اختلاس)، ولو أردنا ان نحصي الظواهر الكارثية في الشركات المدرجة في السوق السعودي فسنحتاج للعديد من المقالات في هذا الباب. 

ولتصحيح الاقتصاد او ان صح القول ضبطه على المعيار العالمي الذي يؤدي به إلى ان يكون اقتصاداً جاذبا، تم بناء هيكلاً تشريعياً يتكون من العديد من التشريعات التي تهدف لضبط والتحكم في الأنشطة الاقتصادية ومخرجاتها. وكان الجهد في ذلك واضحاً ومشكوراً، فأنشئت الهيئات التنظيمية والجهات الرقابية واللجان العليا في سعي دؤوب للتصحيح.

ولكن المقاييس لا تدل على التطور، فالشفافية تتحسن ولكن لا ترتقي لمستوى المعايير العالمية، عدالة الفرص تتحسن ولكن المحاصصة لم تختفي، سهولة الأعمال تتطور ولكن المتطلبات تفوق قدرات صغار المستثمرين، معايير التنافسية تتوازن ولكن الميزة التنافسية تمنح ولا تكتسب وهي الحقيقة المزعجة. أصبحت الأعمال حقاً لمن يُنضم الأعمال ويراقبها. 

والحل الحقيقي في إعادة هيكلة الاقتصاد، وهو ما حصل وكان ذلك من خلال الأمر الملكي الصادر بتشكيل اللجنة العليا لمكافحة الفساد برقم أ / 38 وتاريخ: 15 / 2 / 1439هـ. جاء نص الأمر الملكي متضمناً أنه نظراً لما لاحظناه ولمسناه من استغلال من قبل بعض ضعاف النفوس قاموا بالتطاول على المال العام وإساءة استخدامه واختلاسه واتخاذ طرائق شتى لإخفاء أعمالهم المشينة، ساعدهم في ذلك تقصير البعض ممن عملوا في الأجهزة المعنية وحالوا دون قيامها بمهامها على الوجه الأكمل لكشف هؤلاء مما حال دون اطلاع ولاة الأمر على حقيقة هذه الجرائم والأفعال المشينة.

ولخطورة الفساد وآثاره السيئة على الدولة سياسياً وأمنياً واقتصادياً واجتماعياً. صدر الأمر الملكي بتشكيل لجنة عليا برئاسة ولي العهد الأمير محمد بن سلمان، وعضوية رئيس هيئة الرقابة والتحقيق، ورئيس الهيئة الوطنية لمكافحة الفساد، ورئيس ديوان المراقبة العامة، والنائب العام، ورئيس أمن الدولة.

ووفقاً للأمر الملكي فمهمة هذه اللجنة العليا اتخاذ ما يلزم مع المتورطين في قضايا الفساد العام واتخاذ ما تراه بحق الأشخاص والكيانات والأموال والأصول الثابتة والمنقولة في الداخل والخارج وإعادة الأموال للخزينة العامة للدولة وتسجيل الممتلكات والأصول باسم عقارات الدولة، ولها تقرير ما تراه محققاً للمصلحة العامة خاصة مع الذين أبدوا تجاوبهم معها.

تبدأ قصة اللجنة العليا لمكافحة الفساد مع بداية الاقتصاد السعودي، فهي الحل الحقيقي للتصحيح. فاللجنة العليا لمكافحة الفساد تأتي كإجراء استباقي للتأكد من أن الاقتصاد السعودي سيحقق أهدافه هذه المره.

تأتي للتأكد من تحقيق إلغاء الاعتمادية على النفط، تأتي للتأكد من تحقيق توقف الهدر الاقتصادي، تأتي للتأكد من تحقيق تحسن مؤشرات سهولة الأعمال، تأتي للتأكد من تحقيق تحسن جاذبية الاقتصاد ومن عدالة الفرص، تأتي للتأكد من أن الميزة التنافسية لا تمنح بل تكتسب، تأتي للتأكد من أن الدعم الحكومي لا يستغل، تأتي لتأكد من كفاءة الانفاق وبالتالي كفاءة الاقتصاد ككل، تأتي للتأكد من أن نهضة الاقتصاد السعودي ليست نهضة لأعداء المملكة العربية السعودية من أحزاب بشكل غير مباشر، تأتي لتتأكد من هدم كل الكيانات الطفيلية داخل الاقتصاد السعودي. فإعادة هيكلة الاقتصاد لا يمكن تحقيقها بدون الضرب بيد من حديد على كل المستويات وكافة الأصعدة. فلم ولن يُسمع يوماً أن قربة مشقوقة إمتلئت.

خاص_الفابيتا