بالرغم من أهمية الإصلاحات الاقتصادية المطبقة في السعودية؛ إلا أن تسارع وتيرتها ربما أحدث بعض الانعكاسات السلبية على النمو واستدامة القطاع الخاص. ظهر ذلك جليا منتصف العام 2015 الذي انخفضت فيه السيولة متسببة بأضرار مؤثرة للاقتصاد الكلي؛ في الوقت الذي أثرت فيه بعض القرارات الأخرى في خفض القوة الشرائية وبالتالي الإنفاق الاستهلاكي الذي انعكس سلبا على غالبية القطاعات الاقتصادية وفي مقدمتها قطاع التجزئة. وللأمانة؛ لا يمكن فصل تلك الانعكاسات عن المتغيرات الفجائية في أسعار النفط والتي تسببت في الانخفاض الحاد للدخل.
كتبت غير مرة عن أهمية المواءمة بين الإصلاحات الهيكلية والتكيف الاقتصادي والمجتمعي؛ وضرورة وجود الرؤية البانورامية القادرة على تحديد الانعكاسات المتوقعة؛ ليس في الجانب الاقتصادي فحسب؛ بل في جميع الجوانب الأخرى التي لا تقل أهمية عنها ومنها الجوانب المجتمعية والأمنية.
معالي وزير المالية، محمد الجدعان، أكد «أن الاقتصاديين والمتخصصين في الحكومة يرون أنه بالإمكان أن تتمهل الحكومة في بعض الإصلاحات الاقتصادية وتمديدها إلى 3 أو 4 أو 5 سنوات حسب الحاجة وحسب المتغيرات الاقتصادية»؛ وهو أمر مهم للغاية. فبالإضافة إلى نجاعة القرار المتخذ؛ فإنه يثبت أن الحكومة مستمرة في مراجعة قراراتها وتعديل مساراتها وفق الأصلح للاقتصاد والمجتمع. وأن هناك أفكارا وتوجهات مختلفة تتلاقح فيما بينها للوصول إلى الأنسب؛ ضمن إطار الفريق الواحد.
جاءت تصريحات الوزير الجدعان متناغمة مع توصيات صندوق النقد الدولي الذي دعا السعودية الى تطبيق الاصلاحات المالية «بوتيرة ملائمة» وبعيدا عن «السرعة المفرطة» لتجنب انكماش النمو وارتفاع الاسعار. دعوة صندوق النقد جاءت متأخرة في توقيتها عن دعوات أخرى صدرت من مؤسسات حكومية قرأت الواقع الاقتصادي قبل دخوله مرحلة النمو السالبة التي حملت صندوق النقد على مراجعة زمن تنفيذ التوصيات دون أن يعترض على مكوناتها. ما يستوجب طرحه اليوم؛ أن المملكة قادرة على تنفيذ إصلاحاتها الهيكلية بسلاسة وبقليل من الانعكاسات السلبية وفق جدولة الإصلاحات وتقديم بعضها على الآخر؛ فخفض الإنفاق أمر مهم غير أن مكافحة الفساد وتحقيق كفاءة الإنفاق يأتيان بمرحلة متقدمة عنه. فما يمكن توفيره من خلالهما يفوق في أثره الإيجابي الأثر المتأتي من خفض الإنفاق. أجزم أن الحكومة ماضية في مكافحة الفساد إلا أن وتيرة الحركة ما زالت بطيئة في الأطراف التي أعتقد أن التسرب الأكبر يأتي من خلالها. خفض الإنفاق الحكومي يمكن أن يقابله تسريع وتيرة طرح الفرص الاستثمارية القادرة على جذب الاستثمارات الأجنبية وبما يعوض النقص المتوقع في الإنفاق الحكومي. أحدثت الإصلاحات الاقتصادية ذات العلاقة ببيئة الأعمال تغييرا إيجابيا مؤثرا حمل البنك الدولي على الإشادة به؛ وإعادة تصنيف المملكة ضمن قائمة الدول الأكثر تطوراً فيه. حيث عد التقرير الصادر عن البنك الدولي المملكة من أفضل أعضاء مجموعة العشرين في تنفيذ إصلاحات تحسين بيئة الأعمال؛ إضافة إلى تصنيفها ضمن أفضل 20 بلدا إصلاحيا في العالم؛ وهو تحول كبير ومهم لم يكن ليحدث لولا الإصلاحات المتخذة من قبل الحكومة. التوسع في مثل تلك الإصلاحات سيعزز من تدفق الاستثمارات المحلية والأجنبية وسيسهم في رفد خفض الإنفاق الحكومي تدريجيا وبما يضمن سلامة مكونات الاقتصاد.
هناك جانب مهم في الإصلاحات الاقتصادية؛ وبدائل التمويل؛ حيث اعتمدت الحكومة على الاستدانة لسد العجز؛ والمضي قدما في تمويل المشروعات الحكومية. أهمية ضمان التدفقات المالية والإنفاق الاستثماري قد تتلاشى تدريجيا أمام التوسع في الديون السيادية التي ستشكل مستقبلا معضلة في جانبين رئيسين؛ الأول حجم خدمة الدين العام عطفا على النمو المتوقع في أسعار الفائدة؛ والثاني مصادر تقليص الدين وإطفائه مستقبلاً. أختلف مع من يعتقد أن التوسع في إصدار السندات أمر إيجابي لتنشيط السوق المالية؛ فمثل هذا الهدف يمكن تحقيقه من خلال الشركات الحكومية الكبرى وشركات القطاع الخاص ومنها القطاع المصرفي. فغالبية الإصلاحات الاقتصادية العالمية تستهدف خفضا أكبر لعجز الموازنة العامة؛ والديون السيادية؛ والاستعاضة عنها بالديون الاستثمارية المرتبطة بالقطاع الخاص أو المشروعات الاستثمارية الإستراتيجية المشتركة القادرة على سداد مديونيتها ذاتيا؛ ومن إيراداتها الاستثمارية.
عودا على بدء؛ أجزم بأهمية الإصلاحات الهيكلية التي تقوم بها الحكومة؛ إلا أن المواءمة بين برامج الإصلاح الاقتصادي والمحافظة على مكونات الاقتصاد واستدامة النمو أمر غاية في الأهمية؛ إضافة إلى أهمية البعد المجتمعي والأمني في جميع الإصلاحات المالية المؤثرة على معيشة المواطنين؛ وهو ما تضعه الحكومة في مقدم اهتماماتها؛ وسبب المراجعة بعض برامجها وبما يحقق الأهداف الإستراتيجية ويحد من الانعكاسات السلبية في مراحل التطبيق.
نقلا عن الجزيرة