احيانا تبدو الامور من خلال العناوين اسوأ من الحقيقة و لعل الوضع المالي في المملكة احد هذة الحالات.
صوتت الاسواق المالية من خلال الاستقبال اللافت والمؤثر لأول اصدار سندات سعودية عالميا بالسعر و المدة التي تدل على ثقة و طمأنينة دولية على الحالة المالية والتي جأت بعد تصنيف مالي اعلى من "الاستثماري" بدرجه مقبولة، كما انه اكبر اصدار للدول النامية.
أشارت ملاحظات نائب وزير الاقتصاد و وزير المالية الى ان الحالة المالية الجديدة و التي تشكلت بسبب ارتفاع تكاليف ادارة " الدولة " وتكيف الحكومه تدريجيا مع حالة غير قابلة للاستمرار الى ان جاء الانخفاض الحاد في اسعار النفط و انكشف عدم التوازن المالي والخلل الاقتصادي.
صرفت الكثير من الوقت والكتابة في محاولة للتفريق بين الحالة المالية و الفاعلية الاقتصادية ولن يكون هذا العمود مختلف أنا مطمئن على الحالة المالية بالرغم من التحديات والتي اتخذت الحكومه خطوات جرئية للتعامل معها ولكنني لازلت غير مطمئن على الحالة الاقتصادية لانها أصعب بكثير واكثر تعقيد وتلامس محاولة تغيير تصرفات الفرد و المجتمع و حتى اعادة تنظيمه مجتمعيا.
من يرى انه المجتمع سوف يكون تنافسي او منتجا على المستوى المقبول عالميا دون تغيير في تنظيمه المجتمعي فهو يتحدث عن كوكب اخر.
السيطرة المالية خطوة أولية ضرورية وقد يكون هناك حاجه لمزيد من الخطوات كما أشار الوزراء المعنيين ولكن الحديث الاقتصادي لم يعطى حقه من النقاش في حديث الوزراء في برنامج " الثامنه ".
لعل البعض يلاحظ الاشارة للدولة في البداية هذا العمود وليس الحكومه و هذا تفريق متعمد. إذ ان المال تحت سيطرة الحكومه و لذلك جأت الخطوات العملية سريعه ومؤثرة و لكن الخطوات الاقتصادية تبدأ من الحكومه ولكنها لن تكون فاعلة اذا تعاملت مع ما يدور تحت سيطرة الحكومه وحدها.
مساحة الاقتصاد المتكامل و الفاعل تتم تحت فضاء الدولة ولكن بدور قيادي من الحكومه، كما ان القياس في المال أسهل بكثير من القياس في الاقتصاد.
في توجه نوعي لاول مرة نبدأ بالحديث الاقتصادي و تخفيف الحديث المالي و لكن التغيير يحمل مخاطر و صعوبات فكرية وتحديات عملية لم تعطى حقها من التفكير والنقاش بسبب قصور الفكر الاقتصادي تاريخيا و اعتمادنا على الخبرات الاجنبية اكثر من اللازم في نواحي لها أبعاد داخلية عميقة.
في نظري نقطة البداية قبول حقيقة ان الاقتصاد الوطني " نفخ " ماليا مما جعلة اكبر من قدراتنا البشرية والتنظيمية ولكن إقناع الكثير " بتصغير " الاقتصاد الى ما يتناسب مع قدراتنا و قبول الارتجاع الى حالة جديدة نستطيع بها تأسيس مرجعية مقبولة بناء على عوامل الإنتاج الكلية.
مراجعه من هذا النوع لن تجد صدى مقبول ليس من القيادة فقط بل من النخب المتحفزة لدور مقارن عالميا وحتى القطاع الخاص المدلل سوف يجد العودة الى الأدراج مخيف بعد ان استسهل الكسب الغير اقتصادي.
كما ان الطموح المتمثل " بالرؤية " وبرامج التحول الوطني تعبير فكري و عملي لرفض هذة المرجعية على الاقل بالصيغة التي أفهمها.
احد نقاط التلامس بين استحقاقات "الحكومه" ومساحات "الدولة" يتمخض في برامج تخصيص عميقة وواسعه، فهذه سوف تجعل الحكومه في وضع صعب جداً في حالة عدم تحقيق التخصيص نجاح مؤثر و بالسرعة المقبولة.
اعتقد ان برنامج تخصيص واسع و عميق لن ينجح لان اجهزة الحكومه ليست من فعاله او دقيقة بما يتناسب مع تغيير دفة الاقتصاد من العام الى الخاص بما في ذلك الحالة الذهنية للعامة، بل في ظل سيطرة الوافدين على الاعمال في القطاع الخاص ووتزايد تركيز الثروة في ايدي قليلة سوف ترفع درجة الخلخلة المجتمعية بما تحمل من المخاطر السياسية.
سوف يكون صعب جداً ان يظهر مبادرين بالحجم الكافي في ظل ذهاب اغلب الوظائف الوسطى فنيا للوافدين، فهؤلاء عادة هم مصدر المبادرين.
في ظل ما ذكر اعلاه يبدو لي ان هناك خصوصية سعودية، الكثير يجد هذا المصطلح حساس لأسباب تخص السعوديين وحدهم ولكن الحقيقه ان هناك خصوصية من نوع اخر: المملكه ليست دولة صغيرة تستطيع العيش على أجار مالي كالكويت وابو ظبي او قطر ولكنها لا تريد ان تكون مصر او الجزائر بعد سنوات ولن تستطيع ان تكون كوريا او تركيا بعد عشر سنوات وليس لديها العمق الفكري والقدرة الاستراتيجية للأخذ بطريقة مستقلة كما تدل الخطوات والسياسات في السنوات العشر الماضية (حالة ذهنية قابلة للتغيير).
هناك نقص في التأهيل للعديد من المسؤولين على جميع المستويات و لم يسلم بعض الوزراء و مدراء الجامعات من هذا التوصيف.
الاعتماد على استشاريين أجانب لمدة طويلة احد أعراض الاشكالية. لا يمكن ان نطالب بنمو اقتصادي ناهيك عن إصلاح اقتصادي مبني على حجم اقتصاد ليس من صنعنا في جزء فني و مؤثر منه، هناك تناقض مبدئ القليل يريد ان يخوض فيه.
كما ان هناك أشكالية عملية فنحن لم نعمل الا القليل لعقود (في تأسيس الأرضيه الصالحة للنمو الطبيعي) ونريد في سنوات قليلة تغيير كل شي في ظل ضعف مزمن في قدرات النخب والطبقة التكنوقراطية (لذلك اللجوء الى الاستشاريين ولكن لايمكن لهؤلاء التعامل مع استحقاقات " الدولة والمجتمع "، إذ نطالبهم احيانا ضمنيا بالتفكير عنا).
الحلول المطروحة اقرب في نظري الى الهروب الى الامام منها للواقعية و العمق الفكري المجرد. عدم وضوح الفكر يقود الى حلول غامضة او خطا او كليهما فمثلا، احد اعراض الاشكالية تبرز حين نفكر في السياسه النقدية احد الأدوات اللازمه في الاقتصاد الحديث و لكن هذه سوف تبقى قاصرة لدينا بسبب ضعف دوران النقود في النظام المالي والتي بدورها محدودة بسبب قلة الروابط في الاقتصاد (تناقل العملية الإنتاجية).
هذا بدوره يحمل مضامين اقتصادية في مدى الاستفادة من تغيير اسعار صرف العملة و حتى السياسة التجارية. احد الأعراض نوعية الحديث السطحي عن التعليم و إخراجه و كأنه تجميع شهادات نظرية عليا.
هناك خطوات عملية مباشرة للربط اقتصاديا (تغيير التصرفات) و تقليل تكاليف "الدولة" وتصغير حجم "الحكومه" وترشيد دورها. علاج اقتصاد توزيعي مبني على دعم الكل (الغني و الوافد) لابد ان يكون مرحليا توزيعي لكي نتمكن تدريجيا من تغيير التصرفات و اعادة تأهيل العقد الاجتماعي في مرحلة مفصلية تاريخيا.
هناك حاجه لتقليل الدعم و اعادة توزيعه (تحدي مضاعف)، الخطوة الثانية لابد ان تكون بشرية تبدأ بتقليص حاد للمقبولين في الجامعات و البعثات (اغلب طلاب البعثات ليس لدراسة الهندسة والعلوم او المستوى المطلوب) مقابل تقليص الوافدين نظاميا لإعطاء المواطن فرصه حقيقية ذكورا و إناثا.
لن يحدث تغيير حقيقي دون منافسة بين السعوديين لكي يتمكنوا من منافسة غيرهم. الواضح ان برامج التوطين على مدى عقدين مكلفة وسطحية ولم تحقق نتائج مقنعه.
الخطوة الاخرى لابد من قبول ان التغيير سوف يحمل درجه من التذمر والتشكي لان المنافسة سوف تكشف الكثير من المستور في الترتيب المجتمعي.
حين يتجه أبناء النخبة لتخصصات ادارية و العمل في المصارف وليس للهندسة للعمل في الصناعة في تجاوب مع هياكل اقتصادية لاتخدم التقدم هناك خطا يغذي أخطاء اخرى. تبدأ النخبة في رحلة نفسية خادعة في تصور التقدم بدل من ممارسته فعليا.
الحالة التوزيعية للدولة و ليس للحكومه فقط يجعل التحدي مضاعف و اقرب الى بعث جديد لمقومات الدولة و لذلك لا يمكن ترك موضوع بهذه الحساسية لأنصاف تقنوقراط يعرف الكثير ان الكثير منهم غير مؤهل لهذة المهمة.
لابد للحكومه من السيطرة على سياسة التوزيع لإعادة هيكلة المنظومه مرحليا لتسهيل التحول الى اقتصاد حديث ولكن من خلال رؤيه لفتح افق جديد. التصغير بغرض النمو ضد العقلية التقليدية ولذلك هناك عبء نفسي وتحدي فكري ومواجهه مجتمعية صعبة. الاستمرار في "تكبير" الاقتصاد والتظاهر انه نمو خديعه تتضمن أشياء كثيرة منها رفع تكاليف الحكومه الى حد مزيد من الاقتراض في ظل تغيير هيكلي لأسعار النفط عاجلا او آجلا.
أخذنا من الاستشاريين ما يكفي لسنوات، كما ان العمل الحقيقي على الارض اكبر مدرسة استشاريه للمواطن.
أتفهم ان هناك هناك حاجه لتنشيط الفكر وحلقات النقاش وتعليم وتدريب التكنوقراط الواعدين ولكن لابد من التوقف بعد خمس سنوات و مئات الملايين من الريالات. ليكن العام القادم اخر عام للاستشاريين واخر عام لنفخ الاقتصاد لكي يتمكن السعوديين من اعادة صياغه الخطاب الفكري اولا و عمل فني منظم ثانيا.
شكرا استاذ فواز على هذا المقال المتميز والذي هو من افضل المقالات التي قرأتها عن الحالة الاقتصادية السعودية سواء بالعربية او الانجليزية . حقيقة كل فقرة منها تعكس خبرات متراكمة ...وخصوصا تركيزكم على ان النمو لن يحدث الا بالتغير المجتمعي والتنافس بين مواطني هذا المجتمع . الحديث ذو شجون ....اكرر شكري لكم.
شكرًا شاري راسي التحدي التنموي كما تعرف مختلط مع االتحديات الاقتصادية و يخضع للتذبذب المالي ، نحتاج التعاون و الهدؤ لمواجه التحدي ، اعتقد اننا قادرون . الله يوفق الجميع