أعود لأقول إن توجه شركة أرامكو السعودية للتوسع في أنشطة القيمة المضافة، مثل التكرير والبتروكيماويات وحتى البتروكيماويات المتخصصة سيحقق لها -وبالتالي للاقتصاد السعودي- آفاقاً أرحب، لا سيما أن مبادرات أرامكو هي مبادرات مع شركاء من الصف الأول عالمياً الأكبر، بل يمكن القول إن هذه الشراكات يمكن اعتبارها اتفاقات الجيل الثالث، بعد اتفاقات المملكة مع الشركات الأمريكية لإنتاج النفط، ثم اتفاقيات المملكة مع الشركات العالمية لتصنيع البتروكيماويات السلعية (من خلال شراكات مع سابك)، أما الجيل الثالث فاتفاقات أرامكو السعودية مع شركات من وزن توتال وداو كميكال وسواهما للتصنيع المتقدم في مجالات متعددة ليس أقلها أهمية تصنيع الكيماويات المتخصصة، التي أعيتنا عقوداً بسبب احتكار التراخيص والتقنيات من قبل أرباب الصناعة الكبار.
وأرامكو السعودية شركة عالمية بكل المعايير؛ فقد أثبتت ذاتها على أكثر من صعيد، ولعل أهم تلك الأصعدة للمملكة تطوير موارد بشرية سعودية يعتمد عليها ويعتد بها، ولتصبح مَدرسة تخرج المهندسين والتنفيذيين والفنيين في مجالات حيوية عديدة، ولتثبت لمن لا يزالون يصمون الآذان بشكوكهم حول قدرة ودافعية المواطنين، أن أرامكو قد استطاعت استقطاب سعوديين من البدو الرحل من كبد الصحراء، ومن الفلاليح والصُناع ليعملوا لديها في أنشطة لم يعتادوها من قبل! ولن يتسع المجال للإطالة، لكن مبادرات أرامكو السعودية على مدى العقود في تطوير الموارد البشرية ورعاية الرأسمال البشري جديرة بأن تُجمع وتُوثق وتُحلل منهجياً حتى يُستفاد منها على أكثر من صعيد وتحديدا في برنامج التحول الوطني ومن قبل هيئة توليد فرص العمل ومكافحة البطالة، ولاسيما أن تلك المبادرات كانت –وقت إطلاقها- جريئة وخارجة عن المألوف في مجتمع محافظ! خذ مثلاً برنامج «التَدرج»، الذي كان هو المرتكز لإمداد الشركة بالسعوديين؛ باستقطاب الموارد البشرية «الخام» من الصحاري والقرى والبلدات ليطورها عبر سنوات طويلة حتى تمتلك المهارات والقدرات ثم تفتح أمامها الأفق، حتى غدا -في وقت من الأوقات- خريجو برنامج التدرج هذا هم صف الشركة الأول، الذي يديرها تنفيذياً وهندسياً وفنياً ولوجستياً! فكانت معجزة حقيقية تحول أبناء الصحاري وزراع النخيل إلى قادة في مجالات التنقيب والتقنية والخدمات، وهذا مجرد مثال ليس أكثر.
وباعتبار أن التوسع أفقياً وعامودياً هو أسلوب حياة بالنسبة لأرامكو، أو ما أسمية استراتيجية «المحيط التركوازي»، أي ما يتجاوز المعروف في عالم الاستراتيجيا بـ «المحيط الأزرق»، فقد أدى ذلك لامتلاكها «مهارات» في مجالات عدة تتجاوز مجرد عمليات انتاج وتسويق النفط، ولعل السبب:
أن الشركة وجدت نفسها في مناسبات عديدة لزاماً عليها أن توفر منفردةً حلولاً متكاملة تتجاوز الأنشطة المتصلة مباشرة بالنفط، مما جعلها تمتلك الموارد للقيام بذلك.
فهل يعتبر هذا خروجا عن «النص»، أقصد عن المهام المرسومة في أهداف الشركة؟ لعل الأقرب أنه لم يكن أمامها من خيار إلا امتلاك الأدوات لتحقيق الهدف.
ويبرز هنا مثال –ولعله الأوضح- ويتمثل في قدرة الشركة على إدارة المشاريع، وهي قدرة نبعت من أنها شركة دائمة التوسع متعددة المبادرات التي بحاجة لتنفيذ، وهذه تتحول لمشاريع متنوعة في حجمها وتعقيدها ودرجة المخاطرة فيها إضافة لضخامة عددها الذي تجاوز الآلاف دائماً، فضلاً عن تنوع استخداماتها والادارات المالكة لها؛ فعلى الرغم من أن جلّ المشاريع لها صلة بصناعة النفط، إلا أن جزءاً منها له جوانب مساندة (مَدّ طريق وتعبيده) أو اجتماعي (تخطيط وتهيئة حي سكني وتوفير خدمات تعليمية وإتاحة خدمات صحية).
هذا التنوع في المشاريع التي أسهمت الشركة في التفكير بها وتخطيطها وطرحها وإدارتها ورعايتها وصيانتها وتمويلها وإدارة سلسلة التزويد بما في ذلك المقاولون المنفذون لها منح الشركة خبرة عميقة ونادرة في مجال المشاريع من جوانبه المتعددة، نحن أحوج ما نكون لها، لإنهاء معاناتنا، التي أدت مؤخراً لإلغاء 7000 مشروع، كما أعلن عن ذلك مؤخراً.
والأمثلة كثيرة فيما تمتلكه أرامكو من مواهب وخبرات، بما يُعدّ بمثابة كنز ثمين من الملائم توظيفه ليساهم في دفع عجلة تنويع الاقتصاد السعودي والارتقاء بإنتاجيته، ولذا فلعل من الملائم طرح شركة تحت مسمى «أرامكو للحلول المتكاملة» تختص بتقديم:
فكر ومنهجية أرامكو وتجربتها الإدارية المتراكمة عبر السنين، وإدارة وتنفيذ المشاريع بتشعباتها، وتطوير وتنمية الموارد البشرية وتحفيزها.
وليس في الأمر جديد، فالعديد من الشركات العالمية لديها شركات تابعة تؤدي مهام مساندة أو متخصصة في مجالات تتفاوت قرباً أو بعداً من صلب أعمال الشركة، أما الرابط فهو استغلال الإمكانات الكامنة وتعظيم قيمتها ومردودها على الشركة ومجتمعها.
ولا يغيب عن الذهن أن برنامج التحول الوطني بحاجة للعديد من تلك القدرات والموارد.
ومن مزايا طرح هذه الشركة (أرامكو للحلول المتكاملة)، وهو أمر ليس خافياً وكنتُ قد تناولته هنا من قبل، أننا نحتاجها في اقتصادنا السعودي لدفع برنامج التحول، الذي من مبادراته كذلك الخصخصة وتوليد الوظائف وتطوير الموارد البشرية.
وهي ستكون ضمن ما يمكن للسوق المالية السعودية استيعابه، رغم أنه قد يكون الطرح الأكبر في تاريخ المملكة، أي يتجاوز ما اكتتب به عند طرح البنك الأهلي التجاري، وستساهم تلك الشركة في المساعدة على مساعدة العديد من الجهات الحكومية «خصخصة» العديد من أنشطتها ذات الطابع الاقتصادي.
أرامكو قوة دافعة، كانت في مرحلة سابقة ولا تزال تمدنا بالمال وبالرجال والنساء، وحالياً وبعد أن اكتسبت خبرة وحنكة، فبوسعها أن تمارس دوراً إضافياً وجوهرياً، بأن تصبح «حفازاً» يدفع وينشط برنامج التحول الوطني، وهو برنامج طموح يسعى ليحقق –ضمن أمور أخرى- تحويل الاقتصاد السعودي من الريع إلى الإنتاج.
أرامكو تمتلك مفاتيح كثيرة لفك انسدادات عدة منعت في السابق اقتصادنا مع إطلاق قوته الكامنة.
ثمة من ينظر للمبادرات كصفقات بيع وشراء، في حين أنها مبادرات تنطوي على قدر كبير من تحدي الذات واعتداد بقدرتنا –كوطن- على الإنجاز والمنافسة، فاقتصادنا يملك معطيات القوة والقدرة على التجدد وقيادة المنطقة برمتها، كمرتكز للنمو وللتنوع وللمنافسة.
بما يحقق ما يرمي له برنامج التحول لرفع مستوى معيشة المواطن، فهذا هو مربط الفرس، وهو المحصلة النهائية التي يُعتد بها لقياس النجاح، وبوسع أرامكو أن تساهم في تحقيق ذلك مساهمةً جوهرية لا يمتلكها أحدٌ سواها.
نقلا عن اليوم