تمر صناعة النفط العالمية خلال نهاية الربع الأول من القرن الحادي والعشرين بمرحلة متعددة الاتجاهات؛ إذ إنّ الطلب العالمي على النفط في ارتفاع مستمر، حيث ازداد من نحو 100 مليون برميل يومياً، ليصل بعد ربع قرن تقريباً إلى نحو 105 ملايين برميل يومياً، حيث إن مستوى الاستهلاك العالي خلال السنوات الخمس الأخيرة، وتحديداً بعد «كوفيد - 19»، سجل منذئذ زيادة سنوية بنحو مليون برميل يومياً، يأتي هذا الارتفاع في الزيادة الاستهلاكية السنوية للنفط، وكذلك زيادة استهلاك الغاز، في فترة مرور صناعة الطاقة العالمية، بعصر «تحول الطاقة»، حيث الارتفاع النسبي التدريجي لها في سلة الطاقة العالمية، كما يأتي هذا التغيير في مصادر الطاقة في الفترة نفسها التي تزداد وتتنوع فيها مناطق استكشافات النفط والغاز. وهذا هو الوضع بالذات في دول الخليج والعراق، حيث على سبيل المثال، الإعلان عن الاكتشافات النفطية المهمة خلال الأشهر الأخيرة، والنجاح الاقتصادي في استثمار النفط الصخري في الولايات المتحدة وكندا والأرجنتين. والأمر نفسه في مجال الاكتشافات الغازية، وبالذات الروسية منها في القطب الشمالي، وفي كل من شرق وغرب أفريقيا، وفي البحر الكاريبي وأقطار شرق المتوسط. ناهيك عن تطوير صناعة الغاز المسال في قطر وأستراليا والولايات المتحدة التي تتيح تصدير الغاز عبر المحيطات إلى قارات العالم المختلفة.
ويأتي التغيير في ربع القرن مع تولي دونالد ترمب الرئاسة الأميركية، ومسلسل المطالب تحت شعار «أميركا أولاً»، وهذا ما استفزّ الرأي العام؛ نظراً للمخاطر النابعة عن ذلك: احتلال دول كبرى ومناطق اقتصادية تابعة لدول أخرى، ناهيك عن عدم احترام حقوق الإنسان، مثل الدعوة السافرة لتهجير أهل غزة، أو طريقة التعامل مع المهاجرين إلى أميركا، يكمن التناقض الواضح لمطالب ترمب في توقيتها. فمن ناحية، يزداد الطلب العالمي السنوي للطاقة، وفي الوقت نفسه ترتفع التحديات الجيوسياسية جراء النزاعات الاقتصادية ما بين واشنطن وبكين، والضغط الزائد على أقطار السوق الأوروبية المشتركة، واستمرار الحروب الإسرائيلية لتهجير الفلسطينيين، مع العلم أن جميع هذه العوامل تترك بصماتها على صناعات الطاقة.
كما يكمن التناقض في وعود ترمب الطاقوية لخفض الأسعار، مع حملته لدعم صناعة النفط الصخري، التي تتميز بها الولايات المتحدة حالياً. فإنتاج النفط الصخري أكثر تكلفة من إنتاج النفط التقليدي، والدعوة لخفض أسعار النفط ستقلص من هامش الربح للشركات المنتجة للنفط الصخري، بحيث يصبح غير رابح اقتصادياً الاستمرار في زيادة إنتاجه، إنّ الاستنتاج الواضح لهذه الظواهر، هو أنه رغم الاهتمام العالمي بظاهرة «تحول الطاقة» الهادفة إلى تقليص «الانبعاثات الكربونية» الناتجة عن حرق الهيدروكربون الذي يضر بالبيئة، فإننا نلاحظ في الوقت نفسه، توسعات مستمرة لاكتشاف حقول نفطية جديدة، بمعنى أنها تتوقع الاستغلال الاقتصادي للحقول المكتشفة حديثاً، لفترة أبعد بكثير من عام 2050 الذي حدده «مؤتمر باريس 2015» لتصفير الانبعاثات، تشارك بعض الدول الصناعية الشركات النفطية في توقع استمرار استهلاك النفط والغاز للعقود القريبة المقبلة على الأقل، ومنها الولايات المتحدة، وبريطانيا، والنرويج، وكندا.
لقد بادرت وقادت الدول أعلاه الحملات العالمية لتقليص إنتاج النفط، في الوقت الذي عملت فيه على زيادة احتياطياتها النفطية. ومما دعم من السياسات النفطية هذه هو العشرات بل المئات من البلوكات الجديدة التي عرضتها بريطانيا للاستثمار في بحر الشمال، والضغوط الأوروبية الزائدة على النرويج لزيادة صادراتها النفطية إلى أقطار السوق الأوروبية المشتركة إثر حظر النفط الروسي، وسياسة الرئيس دونالد ترمب في عهده الأول، وما يدعو إليه الآن لحث الشركات على زيادة الحفر والإنتاج الأميركي، ناهيك عن تشجيع الشركات بإتاحة فرص جديدة لها للعمل في الولايات الأميركية، في محميات المناطق الفيدرالية وبعض المناطق البحرية التي كانت مقفلة على الشركات حتى الآن، وتشجيع صناعة النفط الصخري.
وفي هذا الوقت، نجد بعض الدول الشرق الأوسطية: السعودية، والعراق، والإمارات، وقطر والكويت، بالإضافة إلى مصر والمغرب والأردن والجزائر، تولي اهتماماً ببدائل الطاقة المستدامة، ونجد أيضاً أن الأقطار الأوروبية التي استثمرت مليارات الدولارات في الطاقات المستدامة، تعاني من عدم توازن ميزان العرض والطلب على الطاقة، نظراً للتقلبات في إمدادات الغاز لأسباب جيوسياسية، وعدم إمكانية الطاقات المستدامة في العمل بالطاقات الكامنة المتوفرة لها، هذه الظواهر تبيّن لنا الأهمية البعيدة المدى للنفط، ومدى استمرار اعتماد العالم عليه، رغم كل الضجيج الذي يثار حول ذلك.
نقلا عن الشرق الأوسط