توقف حضرة صاحب السمو الأمير المفدى عند آيتين كريمتين تلخصان توجهات الدولة في المرحلة القادمة، الأولى: "لا يكلف الله نفساً إلا وسعها"، والثانية: " وعسى أن تكرهوا شيئاً وهو خير لكم..." وقد استخلص سموه من الآية الأولى أن الدولة قامت في العقود الماضية بكل ما يقتضيه الواجب من تنمية ورعاية للمجتمع القطري حتى تبوأت قطر مراكز متقدمة جداً في المؤشرات الدولية المختلفة، وباتت على طريق تحقيق تنمية مستدامة...ومن ثم فإن التراجع الحاد في أسعار النفط، وفي الإيرادات الحكومية بات يقتضي اتخاذ سياسات مهمة في مجال المالية العامة، حتى لا يكون هناك عجز كبير في الموازنة العامة قد تضطر الدولة معه إلى استنفاد ما ادخرته من احتياطيات في سنوات الفائض، أو أن تنضم إلى صفوف المقترضين.
وعبر سموه في الآية الثانية عن عدم رضاه عن الظواهر السلبية التي رافقت ارتفاع أسعار النفط في سنوات الطفرة، والتي ذكرها تحديداً بأنها:"النزوع إلى الهدر في الصرف، وبعض الترهل الوظيفي في المؤسسات، وعدم المحاسبة على الأخطاء في حالات كثيرة، والإتكال على الدولة في كل شيء، وإضعاف دوافع الفرد القطري للتطور والمبادرة".
ورأى سموه أن انخفاض أسعار النفط يبدو من هذه الزاوية نعمة يجب اغتنامها لتصحيح المسار، والتخلص من السلبيات.
وقد فصل الخطاب بعد ذلك نقاطاً عديدة عن المشهد الاقتصادي لدولة قطر في المرحلة الراهنة، وما يجب على الحكومة ومؤسساتها وعلى مجلس الشورى البحث فيه ومعالجته، إلا أنني أتوقف في مقال اليوم عند وجهة نظري في الموضوع ، وأتصور في ذلك ما يلي:
أولاً: إن ضبط الإنفاق يمكن أن يؤدي إلى تقليص استحداث الوظائف الجديدة -إلا للضرورة القصوى- وإلغاء الوظائف التي يمكن الاستغناء عنها نتيجة حدوث إزدواجية مع وظائف في جهات أخرى، وتقليص مكافآت اللجان والتمثيل والمهام. ويمكن خفض المصروفات الجارية والنفقات الراسمالية الثانوية للأجهزة الحكومية، والتقليل من الصرف على المناسبات الاحتفالية والمؤتمرات.
ويمكن أيضاً تأخير إقرار مشروعات جديدة إذا لم يكن قد تم البدء فيها سابقاً، وخاصة إذا كانت تحتمل التأجيل، ووقف الدعم للشركات العامة التي لم يثبت نجاحها، وظلت عالة على موازنة الدولة.
والبنود بعد ذلك كثيرة فيما يمكن مراجعته وخفضه. وقد تكون مناسبة التحضير للموازنة العامة للدولة للعام 2016 التي تبدأ من يناير القادم فرصة لتحقيق ما أمر به حضرة صاحب السمو الأمير المفدى.
ولنتذكر، أن أخر سنة شهدت عجزاً مالياً كانت في عام 99/2000 عندما كان إجمالي النفقات 17,4 مليار ريال، والعجز 2,1 مليار ريال.
وقد استطاعت الدولة آنذاك التغلب على الصعاب بجملة من السياسات المالية، ولكن لا ننسى أن عدد السكان في ذلك الوقت كان لا يتجاوز 600 ألف نسمة، وكانت تكلفة المعيشة منخفضة جداً مقارنة بما وصلت إليه اليوم.
ولقد شهد الإنفاق العام منذ ذلك التاريخ تزايداً ضخماً بحث تضاعف حتى العام 2014/2015 بنسبة 1225% في حين تضاعف عدد السكان بنسبة 400%، ومن ثم فإن ضبط معدل النمو السكاني وضبط التضخم هما من بين الأولويات في المرحلة القادمة.
ثانياً: إن تفادي الوقوع في حالة عجز كبير في الموازنة العامة قد لا يتحقق بضبط الإنفاق فقط، وإنما يتم أيضاً بزيادة الإيرادات من الرسوم والضرائب، وقد تحركت الحكومة في هذا المجال عندما قامت كهرماء برفع تسعيرة الكهرباء والماء على المستهلكين، ورفعت جامعة قطر الرسوم وعندما تم رفع سعر بعض المحروقات قبل ذلك.
على أنه ربما يكون قد آن الأوان لمشاركة القطريين لحكومتهم في تحمل تكاليف بعض الخدمات الحكومية؛ وخاصة للفئات القادرة منهم، واستثناء ذوي الدخل المحدود وأصحاب المعاشات.
وهنالك أمور كثيرة يمكن النظر فيها من قبيل فرض ضرائب على أرباح الشركات الوطنية التي تزيد أرباحها السنوية عن مستويات معينة-مع العلم بأن الضرائب حتى على الشركات غير القطرية منخفضة جداً بالمقارنة بمثيلاتها العالمية-.
الجدير بالذكر أن حضرة صاحب السمو الأمير قد نوه إلى إن المفتاح لعبور هذه المرحلة بسلام، هو أن يدرك كلا منا أنه كما استفاد في مراحل النمو السريع وارتفاع أسعار النفط، فإن عليه أن يحمل أيضاً معنا مهام المرحلة ومسؤولياتها وأعباءها، كل حسب قدرته في تحمل العبء".
ثالثاً: بالتوازي مع جهود ضبط الإنفاق وزيادة الإيرادات، فإن محاربة الفساد المالي والإداري الذي أشار إليها سمو الأمير، يدعم حفظ المال العام ويقلل من الهدر في الإنفاق وسيؤدي حتماً إلى زيادة الإيرادات.
وقد تطرق حضرة صاحب السمو الأمير بعد ذلك إلى موضوع آخر لا يقل أهمية عما سبق ويتعلق بدور القطاع الخاص ومسؤولياته في المرحلة القادمة، وفي تقديري أن هذه نقطة في غاية الأهمية وتحتاج إلى توضيح في هذه المرحلة التي يتم فيها التحضير لإعداد استراتيجية التنمية الوطنية 2017-2022... وسأعود لتناول هذا الموضوع في مقال آخر إن شاء الله، ولكنني أنوه هنا إلى أن القطاع الخاص قد لا يكون قادراً على مواصلة النمو بمعدلات مرتفعة في المستقبل، بعد ضبط الإنفاق الحكومي.
وربما يكون من المحبذ حصول نوع من التباطؤ في نمو هذا القطاع بما لا يزيد عن المعدلات القصوى المقبولة عالميا وهي 5%، وذلك إذا ما أريد تحقيق توجيهات سمو الأمير فيما يتعلق بوقف انفلات أسعار العقارات وضبط معدل التضخم.
بوركت يا استاذنا مقال رائع