هل من المصلحة فتح الأسواق؟ إجمالاً نعم، فيما عدا سوق العمل، حتى لا يعاني المواطنون من البطالة والازاحة، ولإتاحة الفرصة لسوق العمل المحلية الاستفادة من خلق الوظائف الذي يُحدثه النمو الاقتصادي.
وهذا لا يعني عدم استقدام عمالة من الخارج، بل يعني عدم استقدام عمالة تنافس أبناءنا وبناتنا على الوظائف التي يصلحون لها أو التي نستهدفها لكي يشغلوها لاعتبارات متفاوتة.
وكما أننا لا نملك الوفرة البشرية ليشغل مواطنون جميع شرائح الوظائف «الزرقاء» وتلك التي لغير المَهَرة، فإننا نسعى لكي يشغل السعوديون والسعوديات الوظائف القَيّمة (الفنية والتقنية والهندسية والطبية والإدارية)، فهي وظائف لها مسار وتتميز بمراكمة الخبرة، وبالتالي بناء رأس المال البشري لدى الفرد، وفي المحصلة، لدى الاقتصاد وحتى المجتمع، بما يجعله مجتمعاً معرفياً.
إذ إن الارتقاء باقتصادنا ليصبح معرفياً لا يتحقق باقتناء المعرفة أو حتى باستقدام الخبراء، بل باكتسابها واستيعابها وهضمها وتوطينها وتطويرها.
ننتقل للمجال الأوسع، وهو بقية الأسواق فيما عدا سوق العمل، لطرح سؤال:
ما المصلحة في فتح دولة لأسواقها؟ بل ما مصلحة السعودية، تحديداً، في أن تفتح أسواقها، وكذلك تحديداً أسواق السلع؟
لعلها الرغبة في الارتقاء بالإنتاجية، فهي متدنية، مقارنة بمجموعة العشرين من جهة وتفتقر للنمو عبر السنوات. ولا فكاك من الارتقاء بها فهي مرتكز النمو الاقتصادي في المدى الطويل.
أعود للسؤال المطروح، تدفع المنافسة بين البائعين لعمل كل ما في وسعهم لخفض تكاليفهم حتى ينافسوا سعرياً؛ فالمنافسة بين البائعين تؤدي، ليس فقط إلى انخفاض التكاليف والأسعار، بل كذلك إلى الارتقاء بجودة المنتجات، وتقديم خدمة «ما بعد البيع» أفضل للعملاء.
وكما هو مستقر، يتأثر مستوى المنافسة في السوق بعددٍ من العوامل، منها:
عدد المشترين والبائعين، سهولة دخول منافسين جدد، إمكانية تواطؤ المشترين أو البائعين بما يقلل من مستوى المنافسة في السوق.
لكن التواطؤ، وترتيب الأسعار، أكثر صعوبة في الأسواق التي ينشط فيها أعداد كبيرة من المشترين والبائعين.
وهنا بيت القصيد في فتح السوق لينشط فيها المنتجون ويضطرون لمنافسة بعضهم بعضاً كسباً للزبائن، ففي السوق غير التنافسية، يُملي المنتج شروطه –بصورة أو بأخرى- كما نلمس في أسواقنا كل يوم! كما أن فتح السوق لمنتجين جدد يؤدي إلى إدخال منتجات جديدة وأساليب الإنتاج من قبل الداخلين الجدد بما يُنشط المنافسة بين المنتجين ويوقد نارها، ويدفعهم للإبداع، ويدفع بالتالي الاقتصاد للنمو.
وعند التمعن في العديد من الأنشطة الاقتصادية القائمة لدينا نجد منها ما هو إما محتكر تماماً او تحتكره قلة.
والمثال للاحتكار التام هو ما نعايشه من سيطرة شركة واحدة للكهرباء على قطاعٍ بأسره رغم أن الحديث قد تقادم عن أهمية إيجاد سوق للكهرباء فيه منتجين وباعة ومشترين، وفيه تمايز للأنشطةِ من توليد ونقل وتوزيع.
ومن أمثلة احتكار القلة ما هو الماثل في القطاع المصرفي، فمن يقول إن الرقم السحري لعدد البنوك التي يجب أن تعمل في السعودية هو «12»؟!
ولماذا تمنح البنوك الأجنبية ترخيصاً لفرعٍ واحد فقط، رغم أن بعض تلك البنوك الأجنبية ضخمة وستضيف لسوقنا الكثير؟ بل منها ما هو خليجي مثل بنك الكويت الوطني ومؤخراً بنك قطر الوطني، ومع ذلك نجعلها تنزوي في فرعٍ في أحد مدننا الغالية دون منحها أي أفقٍ للتوسع! وبالإمكان سوق أمثلة إضافية مما لا يتسع له المجال.
وعند تفحص ممارسة صناديق التنمية لاختصاصاتها، نجد أنها لا تضع في بالها حَفز المنافسة، لنأخذ مثلاً صندوق التنمية الصناعية، وهو بنك تنمية حكومي متخصص، نجد أنه يكتفي بتمويل عددٍ محدود من المشاريع المتنافسة، حتى لا يتزاحم المصنعون في السوق، رغم أن فكرة التصنيع لمجرد الاحلال محل الواردات قد تجاوزها فِكر التجارة الدولية منذ جيل، فلما لا نستهدف التصدير كذلك ما دمنا نملك ميزة، ودون إرهاق وهدر للموارد الطبيعية أو إساءة توظيف الحوافز الحكومية؟ بعبارة أدق هل هدف الصناديق حفز النمو الاقتصادي أم تقسيم السوق المحلية بين عددٍ محدودٍ من المنتجين؟
وليس القصد هنا نَقد المؤسسات محل الأمثلة أعلاه، بل بيان أن ثمة أسبابا اقتصادية موجبة تبرر تجاوز ممارسات تقليدية لما هو أكثر كفاءة وعائدا على الأنشطة الاقتصادية وكفاءتها الداخلية من جهة، وعلى الاقتصاد الوطني ككل.
ويمكن الزعم، أن هذا الأمر لن يتحقق إلا بتغيير معالم السوق وإعادة تقسيمها، من خلال دخول منافسين جدد، فالمعيار هو للكفاءة والارتقاء بالإنتاجية وبالتالي التنافسية، وهذه أمور ارتكازية لاستدامة الأنشطة غير النفطية.
وبعبارات أخرى، لعل الوقت قد أزف للخروج من نَفق حماية المُنتِج المحلي، إلى تحسين تنافسية المُنتَج المحلي ما دام مستوفياً لحدود دنيا من القيمة المضافة، أما الحماية الأهم فهي حماية المستهلك بتوفير أفضل سلعة بأقل سعر وأفضل خدمة ما بعد البيع، وكذلك اكتساب أسواق خارجية للمنتجات السعودية، ليس فقط بفضل الحوافز والتسهيلات والاعفاءات، بل كذلك بفضل حذق وإبداع المنتجين المحليين وتفوقهم على أقرانهم في الأسواق الخارجية، بما يمكنهم من غزوها بجدارة واقتدار.
نقلا عن اليوم