عقدت القمة السعودية-الأمريكية في ظروف استثنائية، فهي لا تتعلق بالبلدين وعلاقاتهما المشتركة فحسب، فقد عُقدت والمنطقة العربية تشتعل حقيقةً ومجازاً.
وفي الزيارة الملكية، وهي الزيارة الرسمية الأولى لخادم الحرمين الشريفين الملك سلمان بن عبدالعزيز منذ توليه الحكم.
ورغم أن الزيارة تناولت الشئون الثنائية، إلا أن الملك بين أن حرص المملكة الأول هو الحفاظ على الاستقرار العالمي، وبين بوضوح أن المملكة لم تأت لحاجة لها، بل من أجل خير المجتمع الدولي. ويفهم من هذا أن المملكة لها مصالح حيوية في إقليمها لن تتنازل عنها أو تتركها دون رعاية.
ورغم تعدد وتعقيد الملفات السياسية، إلا أن هذه القمة كانت اقتصادية بامتياز، فقد قدم الجانب السعودي مقترحاً لتعزيز الشراكة الاقتصادية بين البلدين، ولم يتبع في اعداد المقترح طرفاً تقليدية، بل من الواضح أن جهوداً مكثفة وعلى مدى أشهر بذلت لتقديم مقترح يليق بأهمية الزيارة بين قطبين مؤثرين، ويخدم الاقتصاد السعودي وأولوياته، ويقدم للجانب الأمريكي ما يحفزه للمساهمة في تنويع الاقتصاد السعودي ودفعه أنشطته الاقتصادية للنمو، أخذاً في الاعتبار خمس نقاط: أن الولايات المتحدة الأمريكية هي الاقتصاد الأكبر في العالم بفارق كبير فحتى اقتصاد الصين لا يمثل أكثر من خُمس الاقتصاد الأمريكي من حيث قيمة الناتج المحلي الإجمالي، ثانياً أن الاقتصاد الأمريكي يقوم على جهود الريادة للشركات الأمريكية الصغيرة والمتوسطة والعالمية، ثالثاً أن تجربة المملكة مع الشركات الأمريكية كانت إيجابية بكل المعايير، فأداؤها يتمحور حول الإنتاج والكفاءة والاستمرارية عبر تحقيق أرباح، رابعاً - وهو الأهم - أنها تحرص على تنمية المحتوى المحلي بما في ذلك الموارد البشرية، وخامساً تمارس مسؤوليتها الاجتماعية طوعاً في محيط استثماراتها انطلاقا من أن ذلك قيمة وحافز لقبولها في المجتمع فكما يعطيها يجب أن يأخذ.
ولعل التجربة الأبرز هي تجربة عمرها يتجاوز 75 عاماً. فالشركات الأمريكية التي عملت على استكشاف واستخراج وتصدير النفط، كانت تسعى لتحقيق الربح دون أي شك، لكنها حرصت كذلك على أن تقوم بمسئوليتها الاجتماعية من خلال إطلاق برامج متعددة في مجالات الصحة والتعليم والبنية التحتية، ومن جانب آخر كانت تسعى تلك الشركات سعياً حثيثاً لتوظيف السعوديين، بل لتطويرهم عبر تعليمهم جنباً إلى جنب مع تدريبهم على رأس العمل، فبرنامج التدرج الذي أطلقته أرامكو منذ بداياتها أخرج لنا جيلا من السعوديين المهنيين، لعلهم من بين الأفضل في مجالات صناعة النفط والأنشطة المرتبطة بها بما في ذلك التكرير والتسويق والصيانة والتشغيل.
وقبل ذلك، فلم تتشك أرامكو قط من عدم توفر سعوديين يرغبون في العمل، بل إن الشركة (الأمريكية) كانت تذهب إلى الفيافي والقفار والقرى والبلدات بحثاً عن السعوديين حتى يعملوا معها، وكانت تعرض عليهم أجوراً عالية حتى تستقطبهم، وتقدم لهم ظروف عمل متميزة على الرغم من طبيعة العمل القاسية.
والنتيجة أن "السعودة" في أرامكو كانت دائماً عالية، ففي الخمسينيات من القرن الماضي كان تعداد من يعمل لدى أرامكو السعودية يفوق 15 ألف مواطن، أتوا من البادية والفلاحة، الكثير منهم "ما يفك الخط"، لكن الشركة كانت حريصة على تعليمهم وتطويرهم وتدريبهم على رأس العمل وإرسالهم في بعثات، ووضع مسارات عمل تبين لهم أن الشركة تعول عليهم كثيراً فهي هم، وهم هي. وبالفعل، صعد من بين السعوديين ممن أتوا من البادية والفلاحة ليقودوا دفة الشركة بكل اقتدار.
لم يحدث ذلك مصادفة، بل بحرص الأطراف جميعاً، وبحرص الشركة الأمريكية أن تقوم بواجبها بحماس وليس صورياً أو بالتذاكي والالتفاف عليه.
فعلى النقيض من ذلك، ما حدث من عدم ممارسة الشركة اليابانية لدورها في تطوير محيطها، فغادرت الخفجي غير مأسوف عليها.
ولا أقول هذا، وكأن الشركات كائنات مثالية، بل هي كائنات ساعية للربح، لكن هناك من يؤسس استراتيجياً لعلاقة طويلة الأمد ومربحة للأطراف جميعاً، وبالمقابل فهناك من لا تتعدى نظرته تحت أنفه، فيفكر في ربح اليوم واليوم فقط!.
وعلى الرغم من أن المقترح السعودي للشراكة الاقتصادية المتجددة قد سعى حثيثاً لتقديم تصور متكامل، فقد حرص مجلس الشئون الاقتصادية والتنمية برئاسة سمو الأمير محمد بن سلمان على استقطاب بيوت الخبرة الاستشارية المرموقة وأكثرها مصداقية ورقياً لإعداد المقترح بما في ذلك شركة بوز ومجموعة بوسطن الاستشارية وماكينزي، إلا أن هناك من قد يرى أن الأمر هو تقديم فرص في القطاعات التقليدية في مجال الصناعة والخدمات، ولكن سرعان ما تُبين نظرةٌ في العمق أن هذه القطاعات هي التي يعول عليها لتنويع الاقتصاد السعودي، وهي قطاعات ما زالت "ضامرة" حتى الآن، ولم تُفلح الجهود المحلية لاستخراج قيمة مضافة مؤثرة منها لصالح تنويع الاقتصاد السعودي، بما في ذلك التعدين والصحة وتجارة التجزئة والترفيه والبنية التحتية وتمويل الإسكان والقطاع المصرفي والخدمات الفنية.
والمعول عليه أن تتلقف الشركات الأمريكية هذه المبادرة بحماس وعمق يحاكي قصة تطوير صناعة النفط في المملكة، لتقدم وظائف قيمة للسعوديين، وفرص استثمار للرياديين، وقيمة مضافة لاقتصادنا المحلي الذي ما برح يرتكز على النفط ارتكازاً علينا أن نجاهد لكي نعالجه إيجابياً بإيجاد قطاعات تأخذ اقتصادنا لآفاق نمو أرحب ليصبح اقتصاداً صناعياً منوعاً.
نقلا عن اليوم