ماذا ستفعل إذا انتهت قارورة الدواء الذي تتعالج به؟
إما أن تشتري أخرى، أو تبحث عن علاج آخر أكثر فعالية، وربما تساعد نفسك على تحمل ما أصابك لتتعافى تدريجياً.
هذا هو بالضبط ما يحدث بما يعرف بالدعم الحكومي للسلع والمواد الاستهلاكية والمحروقات. الغاية من هذا الدعم استغلال الفرصة وتحسين بعض الخدمات ورفع كفاءتها ومعالجة الخلل، حتى يتعافى المجتمع من حال المرض الاجتماعي الذي يعاني منه.
إن رفع الدعم الحكومي عن السلع الاستهلاكية أمر قادم لا محالة، سواءً شئنا أم أبينا، إن لم يكن قريباً فسيكون حتماً يوماً ما سنعيشه واقعاً ملموساً، وفي كثير من الأحوال معظم الدول التي تدعم بعض السلع تتجه إلى رفعه تدريجياً ووفق دراسة شاملة؛ لانعكاساته وأثره في الناس، وأيضاً حتى لا ينعكس سلباً على معيشة الناس وحياتهم اليومية.
في السعودية، حرصت الدولة على تقديم الدعم الكامل لكل أنواع السلع والمواد الاستهلاكية. دعمت الأدوية، المصانع المحلية، المنتج المحلي، القطاع الخاص، المحروقات بأنواعها كافة، الكهرباء والغاز، الأغذية، وأنواعاً أخرى من الدعم، حتى في مجال التوظيف قدمت الدولة الدعم للقطاع الخاص بتحمل نصف الراتب للشركات التي توظف السعوديين، وكل هذا يصب من أجل رفاهية المواطن.
في المقابل هناك جهات استفادت من هذا الدعم وحققت مكاسب كبيرة وجنت أموالاً طائلة واستغلت الدعم لمصلحتها بأنانية مفرطة.
دعونا نتساءل: في ظل هذا الكم الهائل من أنواع الدعم الحكومي.. ماذا عالجنا من خلل اجتماعي واقتصادي منذ العقود الستة أو السبعة التي مضت؟
الإنفاق الحكومي لدعم إنتاج الكهرباء بلغ 150 بليون ريال، في المقابل زاد عدد الأجهزة الكهربائية الرديئة في الأسواق من مكيفات وثلاجات، وهو ما أسهم في ارتفاع استهلاك الكهرباء بطريقة عشوائية وغير مقننة، إضافة إلى عجز الشركة عن مواجهة الطلب المتزايد وإبقاء أحياء ومناطق عدة مأهولة بالسكان من دون كهرباء، فهي لا تحقق مكاسب بقدر ما تحقق خسائر فادحة، فمن المعلوم أن الطاقة في جميع الدول مدعومة من الدولة، إنما مقننة.
استفادت المصانع والمدن الصناعية من هذا الخفض، وقدمت لها أسعاراً خيالية، في المقابل اكتشفنا أن أسعار السلع المنتجة محلياً تعادل أسعارها في الدول الصناعية التي لا تتوافر لها هذه الميزة، ولم تساعد في بناء قاعدة قوية ومتينة للصناعة المحلية، معظمها صناعات خفيفة وتمثل شركات أجنبية.
شركات الأدوية وبعض عقاراتها التي تجد الدعم والإعانة الحكومية، استغلت هذا الدعم في التلاعب بالأسعار، وفي بعض المستشفيات الحكومية حدثت بعض الاختلاسات للأدوية واختفت واستُفيد من بيعها.
وبمراجعة بسيطة لما نشر العام الماضي في الصحف من قضايا اختلاس وسرقات للأدوية، ولاسيما الثمينة المتعلقة بمرضى السكر والقلب وأنواعاً أخرى من الفايروسات يتبين مدى سوء استغلال بعضهم لهذه الإعانة بطريقة سلبية.
لم تتمكن المؤسسات الحكومية، ولاسيما التجارة، الصناعة، البلدية، والكهرباء، الاقتصاد والتخطيط، من بناء وعي استهلاكي ورسم خريطة بناء للمستقبل وللأجيال المقبلة بالحفاظ على الموارد الطبيعية، كلها كرست الفوضى وعدم التخطيط؛ لعدم تطبيق العدالة الاجتماعية في معالجة الخلل، وكانت الواسطة والمحسوبية هي العنوان الأبرز في كل مجالات الحياة، ففوتت على الكثيرين فرصة الاستفادة من هذه الإعانات بشكل مباشر.
وزارة الإسكان لم تستفد من كمية المساحات الموجودة لديها، وبقيت عقوداً مكانها غير قادرة على تلبية الحاجات، على رغم الدعم الحكومي وإعانة بناء المنازل، فاستغل أصحاب العقارات الوضع في رفع قيمة الأراضي البيضاء، وتجاوز إلى أعلى من كلفة البناء، في المقابل استغل أصحاب العمارات والشقق ارتفاع قيمة الأراضي في زيادة الأسعار واللعب في الإيجارات بما يجعل الأمر صعباً أمام ذوي الدخل المحدود والمتوسط من دفع الإيجارات.
نعم، ظهرت «مافيا» استغلت الدعم الحكومي السخي لكل أنواع مجالات الدعم، وأنفقت بسخاء. واليوم حينما تمر البلاد بأزمة اقتصادية، وحينما أقول أزمة هذا يعني أنها ستتعافى، إنما ليس بعافيتها كما كان في السابق، التزاماتها زادت، عدد السكان والوافدين في تزايد مطرد، نفقات الدولة على مشاريع التنمية ارتفعت عن ذي قبل.
إن الحاجة ملحة إلى إعادة النظر في طريقة أداء الدعم والإعانة الحكومية، بدلاً من الفوضى التي نعيشها حالياً، وإلى تقنين واضح، وأيضاً إلى دعم مباشر للمستفيد الأول.
في تقرير نشر الأسبوع الماضي في صحيفة «الحياة» أعدته شركة الخبير المالية، أن إعانات الطاقة لم تحقق أية منفعة ملموسة لشرائح المجتمع الأضعف في دول مجلس التعاون الخليجي، إذ أظهرت الأدلة التاريخية أن زيادة الاعتماد على الإعانات السخية تؤدي في الغالب إلى ثقافة انعدام كفاءة وهدر وإلى تأثير سلبي في البيئة.
وفي تقرير سابق نشرته الوكالات أشار تقرير لصندوق النقد الدولي إلى أن الدعم الحكومي يفيد مستهلكي الطاقة بدرجات غير متكافئة، إذ تتمتع نسبة 20 في المئة من الأسر الغنية في البلدان النامية بنسبة 43 في المئة من فوائد الدعم الحكومي، كما أن الدعم الحكومي للطاقة الهادف إلى مساعدة المستهلكين من خلال إبقاء أسعار الطاقة منخفضة، من شأنه إعاقة جهود الحكومات في خفض العجز في موازناتها وتقليص الإنفاق العام على البنية التحتية والتعليم والرعاية الصحية.
مبالغ هائلة تنفقها الدولة تصل إلى بلايين الريالات في مجال الدعم والإعانة السنوية، في مجال الطاقة فقط تنفق 220 بليون ريال سنوياً.
في الدول المتقدمة يتم تقديم الدعم والإعانات الحكومية بشكل مباشر للمواطنين والمستفيدين، وفق آلية مدروسة وأنظمة وقوانين تنفذ بعدالة ولا تذهب للمحسوبية. الأوضاع السياسية والاقتصادية التي تعيشها دول الخليج منذ أعوام، وتراجع الطلب على النفط وانخفاض أسعاره، وتصريحات الخبراء الاقتصاديين تقول وتؤكد: أن النفط لن يعود إلى سابق عهده، ولن يكون الرهان الذي ستلعب به دول الخليج لتحسين اقتصاداتها، فهذا يعني أنه من الضروري أن تبحث عن بدل وعلاج فعال لمواجهة الأزمة التي ستمر بها، ولا يمكن أن تبقى الدولة تتفرج واقتصادها يتآكل مع أسعار النفط، وهذا يجعلها في دوامة العجز المستمر في موازنتها، وطرح المزيد من السندات، ومن ثم انعكاسها على مشاريع التنمية وبطئها، والخاسر الوحيد هو الوطن والمواطن والإنسان البسيط.
نقلا عن الحياة