لا يستطيع أحد أن يقلل من قيمة وأهمية البيانات الاقتصادية التي تصدرها وزارة التخطيط التنموي والإحصاء، باعتبارها الجهة الوحيدة المخولة بإصدار تلك البيانات.
ولديها من الوسائل والإمكانات التي تُعينها على ذلك.
ولا يقتصر عمل الوزارة على إصدار البيانات الفعلية كما في الناتج المحلي الإجمالي ومستويات الأسعار والتجارة الخارجيه وغيرها، وإنما يمتد ليشمل التوقعات المستقبلية لتلك البيانات.
ولدى الوزارة تواريخ محددة تلتزم بها أمام مستخدمي البيانات من مؤسسات دولية ومحلية وأفراد. وفي هذا الإطار صدرت مؤخراً تقديرات للناتج المحلي الإجمالي القطري لعام 2015 تتحدث عن نمو متوقع بنسبة 7,7%.
ومن الواضح أن هذه التقديرات قد تم احتسابها منذ بعض الوقت، فلم تأخذ بعين الاعتبار الانخفاضات المفاجئة والحادة التي طرأت على أسعار النفط إلى أقل من 60 دولاراً للبرميل مقارنة بأكثر من مائة دولار في النصف الأول من العام وحتى نهاية يوليو.
ولأن التوقعات الدولية لا تزال ترجح حدوث المزيد من الإنخفاض إلى ما بين 40-50 دولاراً للبرميل، لذا فإنه لا بد من التنويه إلى أن توقعات الوزارة بشأن نمو الناتج المحلي الإجمالي لعام 2015، باتت بحاجة إلى مراجعة وتنقيح على ضوء تلك التطورات غير العادية.
وأحاول في هذا المقال مناقشة هذا الموضوع لاستشراف ما يمكن أن يكون عليه النمو الاقتصادي لدولة قطر للعام 2015.
1-معروف أن قطاع النفط والغاز أو ما يُطلق عليه في التصنيفات الدولية مصطلح قطاع المناجم والمحاجر، يشكل نصف الناتج المحلي الإجمالي.
وقد تزايدت نسبته في عام 2011 إلى 58% بعد وصول مشروع حقل الشمال للغاز إلى طاقته المستهدفة وهي 77 مليون طن سنوياً.
وانخفضت النسبة بعد ذلك تدريجياً إلى أن وصلت 54,3% في عام 2013، مع توقع أن تصل إلى 50% في عام 2014.
وقد بلغت قيمة مساهمة هذا القطاع في الناتج نحو 394,5 مليار ريال في عام 2012، ونحو 402,3 مليار في عام 2013، وكان من المفترض أن تظل هذه المساهمة عند مستوى 400 مليار ريال في عام 2014، لولا الانخفاض المشار إليه في أسعار النفط، والذي سيخفض ناتج هذا القطاع إلى نحو 350 مليار ريال.
وبالنتيجة فإنه رغم نمو نواتج باقي القطاعات على النحو الذي ورد في تقديرات الوزارة عن الربعين الأول والثاني من عام 2014، فإن التراجع الذي حدث في أسعار النفط في النصف الثاني من العام سيؤدي –حسب توقعاتي- إلى بقاء الناتج المحلي الإجمالي لعام 2014 عند مستوى 738 مليار ريال، أي بدون تغير عن عام 2013، وإن كانت بقية القطاعات غير النفطية ستحقق نمواً ملحوظاً.
2- يتوقف الناتج المحلي الإجمالي في عام 2015 على المستوى الذي ستستقر عنده أسعار النفط، ولدي في هذا الأمر سيناريوهان أولهما؛ أن تظل الأسعار عند مستوى 55 دولاراً للبرميل، وثانيهما أن تنخفض حسب بعض التوقعات إلى 45 دولاراً للبرميل في المتوسط.
وبالطبع أسعار النفط تتحرك طيلة العام وتختلف ما بين يوم وآخر، وقد نشرت صحيفة التلغراف مؤخرا توقعات بأن ينخفض السعر إلى 40 دولاراً للبرميل ولكنني أتحدث عن متوسط سنوي للسعر وليس ليوم واحد.
ووفق السيناريو الأول- أي 55 دولاراً للبرميل- الذي وصلت إليه بالفعل، فإن مساهمة قطاع النفط والغاز ستنخفض إلى 230 مليار ريال، بافتراض عدم تراجع الكميات المنتجة من النفط والغاز.
ثم بافتراض أن بقية القطاعات لن تتأثر بانخفاض أسعار النفط، فإن الناتج المحلي الإجمالي سيتقلص في عام 2015 إلى 500 مليار ريال، أي بتراجع نسبته 32%.
وللمقارنة فإن انخفاض سعر برميل النفط بنسبة 35% فقط (من 94,45 دولار إلى 61,06 دولار) ما بين عامي 2008 و 2009 قد أدى إلى تراجع الناتج المحلي الإجمالي بنسبة 15,2% في عام 2009، مع ملاحظة أن كميات الإنتاج من الغاز وسوائله كانت في حالة ارتفاع.
3-لا يمكن تصور حدوث هكذا تراجع في ناتج قطاع النفط والغاز دون أن يترك ذلك أثراً على بعض القطاعات الأخرى. وفي حين ستحافظ بعض القطاعات على نموها بسبب الالتزام ببرامج تنموية محددة دخلت حيز التنفيذ، فإن قطاعات أخرى ستتأثر بصورة أو بأخرى.
ومن القطاعات التي لن تتأثر نواتجها: قطاع النقل والمواصلات، قطاع البناء والتشييد، والقطاعات الصغيرة الأخرى كالزراعة، والكهرباء والماء، والخدمات الإجتماعية، والمنزلية، ورسوم الاستيراد.
وفي المقابل ستنخفض نواتج قطاعات أخرى مثل الصناعة-التي ستنخفض أسعار منتجاتها تمشياً مع انخفاض أسعار النفط-، وقطاع المال والأعمال، وقطاع الخدمات الحكومية اللذين سيتأثران بتراجع الإيرادات الحكومية.
وإذا ما حدث ركود في نمو بعض هذه القطاعات الأخيرة، أو أن تتراجع نواتجها، فإن نسبة تراجع الناتج المحلي الإجمالي ستكون أكبر من 32%.
4- في السيناريو الثاني الذي قد تنخفض فيه أسعار النفط إلى 45 دولاراً للبرميل، فإن حدة الإنكماش ستكون أكبر من 32%، وقد تتجاوز إلـ 40%، وهو ما نرجو الله أن لا يحدث.
ومع ذلك فإن ما يطمئن بالفعل أمران الأول: أن وجود فوائض مالية كبيرة في السنوات 2011-2014 قد تم تحويلها إلى استثمارات في الخارج، سوف يساعد على تجاوز أزمة الانكماش في عام 2015.
والثاني: أن أسعار النفط لن تستمر في الانخفاض بعد عام 2015، وغالباً ما ستعود إلى الارتفاع ولو بشكل محدود إلى مستوى 60 دولاراً للبرميل، وذلك يعني عودة النمو للناتج المحلي من جديد في عام 2016.
ويظل فيما كتبت رأي شخصي قد يحتمل الصواب والخطأ، وهو اجتهاد لمعرفة ما قد تصير إليه الأمور في ظل تقلبات اقتصادية حادة، على ضوء الخبرة الشخصية لأكثر من 4 عقود في هذا المجال.