في يوم السبت (25 أكتوبر)، أطلقت (كريستيان لاجارد)، المديرة التنفيذية لصندوق النقد الدولي "تحذيرا" لدول مجلس التعاون بالحد من الإنفاق الحكومي لكيلا تواجه عجزا في ميزانياتها مستقبلاً بسبب الانخفاض الحادّ في أسعار البترول.
فهل نحتاج إلى تخفيض الإنفاق؟ وهل هذا هو الحل الوحيد؟
أدلت لاجارد بتصريحاتها في اجتماع الصندوق السنوي مع وزراء المالية ومحافظي البنوك المركزية بدول المجلس، أثناء انعقاده في الكويت.
وتم على هامشه التدشين الرسمي لمركز صندوق النقد الدولي لمنطقة الشرق الأوسط، الذي يهدف إلى أن يكون "المكان الرئيس للتدريب الاقتصادي والمالي للموظفين الحكوميين" في الدول العربية.
ومهّدت لاجارد لتحذيرها بالإقرار بأن الاقتصاد الخليجي من أفضل الاقتصادات أداءً، وأن مستقبله في "المستقبل القريب" إيجابي، حيث قدّرتْ معدل النمو بنحو (4.5) بالمئة خلال عامي 2014 و2015. وتوقعت أن يظل النمو قوياً في القطاع غير النفطي، بمعدل (6) بالمئة، نظراً إلى الاستثمارات الكبيرة في مجال البنية التحتية وتزايد ثقة القطاع الخاص.
ولكن انخفاض أسعار البترول بنسبة (25) بالمئة منذ شهر يونيو 2014 يدعو للقلق، بسبب أثره السلبي على دخل الحكومات والميزان التجاري.
ومع وجود احتياطات مالية تعود لوفورات الأعوام الماضية ما يسمح باستمرار مستويات الإنفاق الحالية في المدى القصير، "إلا أنه في كل دول المجلس تقريبا هناك حاجة تتزايد إلحاحا" لتطوير سياسات الإنفاق الحكومي، حسب قول لاجارد، داعية إلى إصلاحات ملموسة في آلية اتخاذ القرار الحكومي الاقتصادي، بما في ذلك إصلاحات لآليات إقرار الميزانية السنوية، وتبني إطار للميزانية على المدى المتوسط، وتوضيح المسؤوليات بين الجهات الإشرافية والرقابية.
ودعا وزير المالية الكويتي، الذي استضاف الاجتماع، إلى إصلاحات مالية لمواجهة انخفاض أسعار النفط، واحتمالات اختلال في الموازنات الحكومية، مضيفاً أن ذلك يمكن تحقيقه من خلال تعزيز جهود التنويع الاقتصادي بعيدا عن النفط، وتقليل الاعتماد الحالي على الدخل النفطي.
ولا شك أن لاجارد مصيبة تماماً بمطالبتها بتطوير عملية إقرار الميزانيات الحكومية بشكل منتظم وشفاف. أما مطالبتها بتخفيض الإنفاق الحكومي فيجب ألا يُؤخذ على إطلاقه، فربما لم يحن الوقت لذلك.
فثمة مجال كبير للتوفيرمن خلال إجراءات محددة للقضاء على الهدر وسوء الإدارة، كما سأوضح أدناه.
ودعوة الصندوق الآن لتخفيض الإنفاق تتعارض مع مطالباته السابقة بزيادة الإنفاق لمواجهة آثار الأزمة المالية العالمية، إذ كان حينها قلقاً بشأن "اختلال التوازنات العالمية".
وبناء على نصيحته حينها، تم تبني ميزانيات توسعية لا يمكن الاستمرار فيها إن استمرت أسعار النفط في الانخفاض.
فعلى سبيل المثال، ارتفع الإنفاق الحكومي في المملكة بنسبة (68) بالمئة خلال خمس سنوات، من (550) مليار ريال في 2009، إلى (925) مليارا العام الماضي.
وكان من السهل نسبيا رفع الإنفاق حينها لأن سنوات الأزمة تزامنت مع ارتفاع كبير في الدخل النفطي وذلك لسببين، أولهما ارتفاع متوسط سعر البرميل بنسبة (69) بالمئة من (62) دولاراً في 2009 إلى (105) دولارات، والثاني ارتفاع إنتاج النفط بنسبة (19) بالمئة، من (14.5) مليون برميل يومياً إلى (17.2) مليون برميل خلال الفترة نفسها.
وانعكس ارتفاع مداخيل النفط على حجم الناتج المحلي الإجمالي لدول المجلس، مرتفعاً من (955) مليار دولار في 2009، إلى (1.6) تريليون في 2013، ويُتوقع أن يصل إلى (1.75) تريليون بنهاية 2014، أي بزيادة (83) بالمئة!
وحافظ الاقتصاد الخليجي على معدلات نمو صحية خلال الأزمة، بعد الصدمة الأولى في 2008.
ولكن تلك المعدلات أخذت بالتضاؤل تدريجيا. حيث بلغ معدل النمو السنوي للاقتصاد الخليجي (7.7) بالمئة في 2011، منخفضاً إلى (5.6) بالمئة في 2012، ثم (4.1) بالمئة في 2013.
وفي عامي 2014 و2015 يُتوقع أن يبلغ معدل النمو (4.5) بالمئة، ولكن المعدل الفعلي سيتوقف على مدى استمرار أسعار النفط بالانخفاض.
وكما كانت دعوات الإصلاح الاقتصادي في الماضي مرتبطة بانخفاض الدخول النفطية، فإن التذبذب الحالي في الأسعار يوفر بيئة مواتية للتفكير جدياً فيه مرة أخرى.
وليس لصندوق النقد الدولي سجل جيد في مواءمة مقترحاته للإصلاح مع الأوضاع المحلية، بل يُتهم كثيراً بتقديم حلول نمطية يطبقها في كل مكان.
ولكن مديرة الصندوق أظهرت هذا الأسبوع معرفتها بالتحديات الخاصة التي يواجهها الخليجيون، بما في ذلك اعتماد القاعدة الاقتصادية على النفط وارتفاع معدلات البطالة بين المواطنين.
فقالت "إن نجاح الاقتصاد الخليجي مستقبلاً سيعتمد كثيراً على الجهود القائمة لرفع معدل توظيف المواطنين في القطاع الخاص، وزيادة التنوع الاقتصادي."
ولمّحت إلى عدم نجاح تلك الجهود حتى الآن في تحقيق أهدافها، حين قالت: "إن أهم ما تفتقر إليه السياسات القائمة هو تصميم الحوافز الاقتصادية المناسبة لتشجيع المواطنين للعمل في القطاع الخاص، وتشجيع الشركات العاملة في قطاع التصدير على زيادة الإنتاج".
وأرجو ألا تكون نصيحة الصندوق هي تخفيض الإنفاق لتحقيق هذين الهدفين!
وألا يكون تخفيض الإنفاق بنفس المعدل في جميع القطاعات، لأن ذلك لن يكون ضرورياً ولا ناجحاً.
بل يجب التفرقة بين القطاعات المختلفة من حيث تخفيض الإنفاق، والتركيز على مواطن الهدر بالدرجة الأولى، بما يخفض الإنفاق الحكومي من جهة ويزيد كفاءة الاقتصاد من جهة أخرى.
وقياساً على التجارب الدولية وفي دول الجوار، سنجد في زيادة كفاءة الطاقة ووقف الهدر في استخدامها أحد أهم مصادر توفير الموارد المالية الحكومية، دون الإضرار برفاه المواطن على الإطلاق.
وقد قام (المركز السعودي لكفاءة الطاقة) بدراسات معمقة توضح مردود ترشيد استهلاك الطاقة، وتخفيف الهدر في استخدامها.
وبالإضافة إلى زيادة الكفاءة الاقتصادية، سيعود الترشيد بمردود مالي من خلال تخفيض الإنفاق الحكومي على قطاع الطاقة، وبالتالي يساعد على مواجهة آثار انخفاض أسعار النفط.
ويمكن استخدام هذا المردود في زيادة الإنفاق، وليس تخفيضه، على برامج التنوع الاقتصادي وزيادة فرص العمل للمواطنين.
نقلا عن الوطن