في يوليو من عام 2012 أدلى رئيس البنك المركزي الأوروبي ماريو دراغي بتصريح جريء اقتصاديًا ومدهش سياسيًا، قال فيه: سأفعل كل ما يتطلبه الأمر لإنقاذ اليورو، ونظرًا لخلفيته وأسلوبه في العمل فقد أحدث تصريحه صدى مدويًا في أركان الدنيا عكسته تحليلات وتعليقات ثرية كشفت أسلوب دراغي وأكدت ما عرف به وبأنه لن يتورع يفعل أي شيء وفي تطور درامي جديد في اجتماع رؤساء البنوك المركزية الأوروبية بجاكسون هول وايومي في أغسطس الماضي أبلغنا هذا الإيطالي بأنه لن يكف عن المفاجآت إذ قال: إن نسب الفوائد منخفضة إلا أن تكلفة الأصول ارتفعت في المناطق المأزومة اقتصاديًا وهذا يشير إلى خلل في آليات بث الأموال في أنحاء أوروبا من حيث أن الفرق في حجم التمويل ما بين أوضاع اليوم والأوضاع العادية عكس عجزًا كبيرًا أدى لتباطوء النمو في أوروبا وأضعف آليات التعافي الاقتصادي من آثار أزمة 2008 وتوابع الزلزال في عام 2011م مما أثر سلبًا في الناتج المحلي الإجمالي الأوروبي في نهاية 2013م باعتباره ثمرة لما حدث ولكن تبين أن كتلة الذين لم يجدوا وظيفة لأكثر من سنة كونت 6% من إجمالي القوى العاملة الأوروبية وهذا أعلى من ضعف النسبة ما قبل الأزمة وفي ذلك أثر سالب يضاف لما تم الاشارة إليه.
السيد دراغي يريد إرسال ثلاث رسائل للعالم وبأسلوبه الإيطالي ولكل منها ما بعده الرسالة الأولى: أنه سيتجاوز الخطوط الحمراء لرؤساء البنوك المركزية الأوروبية وسيستخدم السياسات النقدية والمالية لرفع الطلب الكلي الأوروبي والرسالة الثانية تماثل القنبلة من حجم متوسط أكد فيها بأن البنك المركزي الأوروبي جاهز لشراء أصول أو بكلمات أخرى تفعيل سياسة ما يعرف لدى عامة الناس بالتيسير الكمي وهو ما يعني انتقال كلي من مربع لمربع جديد وأما الرسالة الثالثة فهي أشبه بحكمه وقال فيها: إن الخطر من فعل أقل مما هو مطلوب أكبر من خطر فعل أكثر مما هو مطلوب لمقابلة التحديات الهيكلية في الاقتصاد الأوروبي أو لرفع الطلب الكلي.
فكرة المشي فوق الخطوط الحمر للبنوك الأوروبية لا يبتدرها إلا هذا الايطالي لما للبنوك من سطوة وقوة تأثير على صناع القرار وعلى الأوضاع الاقتصادية ولهذا مهما قيل عن هذه الخطوة تظل في الاتجاه الصحيح لأن ثمار ما يسمى بالخطوط الحمر كانت مرة المذاق وقادت لتكلس وقعود اقتصادي أوروبي وسحبت أرجل أوروبا إلى حضيض التراجع والبطالة والإفلاس، وتبدو خطوة الرئيس ماريو دراغي خيارًا مفضلاً ومنتظرًا وإن أتت بما لم يأت به الأوائل من رؤساء البنوك المركزية الأوروبية والجرأة الحميدة لها فوائدها أقلها ستدخل البنك المركزي الأوروبي لأول مرة لاعبًا رئيسًا في كبح معدل البطالة في القارة العجوز بدلًا من خيار التفرج عليها ولعلها محاولة أخيرة على طريقة: داوني بالتي كانت هي الداء ولربما كان فيها الشفاء وإنقاذ الاقتصاد الأوروبي مما ألحقته به سياسة التقشف والآثار السالبة مثل تراجع العام وتدني معدل التضخم إلى أرقام صفرية وجعل جيوب الناس أفرغ من فؤاد أم موسى بحيث لم يعد فيها ما يشترى به ناهيك عن رفع الطلب الكلي ولهذا سياسة الرجوع للحق تظل فضيلة وتعكس شجاعة وهي على كل حال أفضل من التمادي في افتراض أن الخطأ يقود لشيء صحيح أو أن السياسات التقشفية بالضرورة تعالج الخلل في الاقتصاد الأوروبي، لأن فاقد الشيء لا يعطيه.
نقلا عن المدينة