نعاني من اعتمادنا على العمالة الوافدة، الذي يتفاوت من قطاع لآخر، أما في قطاع الزراعة فالاعتماد على غير السعوديين شبه كامل، أما دور المواطنين فيقتصر على الاستثمار بملكية الحيازات الزراعية وبعض الخدمات ذات الصلة.
ودور "المواطن المزارع" فيبدو أنه انقرض أو اغتيل، فحتى في القرى والبلدات التي كانت الزراعة عمادها نجحنا في أن نهمش دور الزراعة فيها بل ننهيه ونقضي عليه! لا أقول إننا قمنا بذلك عمداً، بل من خلال سياسات لم تضع في حساباتها وزناً بأن الزراعة قد تكون ضحية.
حالياً، توجد مزارع وبها نخيل وأشجار وورقيات وبيوت محمية، ولكن مزارعيها غير مواطنين، قد يكون في بعض الحالات المشرف على المزرعة مواطنا، ونادراً ما يتجاوز الأمر ذلك. أي أننا تركنا الزراعة، التي لم تتركنا أيام الفقر والفاقة يوماً، تركناها بعد أن تحولت النخلة في أذهاننا من مصدر لتوليد القيمة إلى إحدى أشجار الزينة، لا نلقي كثير اهتمام لما تنتجه.
في الأحساء كان هناك مالك للنخل، أما المزارع المسئول عن المحصول فكان يدعى "شريك" باعتبار أنه يحصل على جزء من الإنتاج نظير اهتمامه ورعايته لمزرعة النخيل. وحالياً، وعند التمعن بعمق، نجد أن العمل ما زال قائماً وفقاً لصيغة "الشريك"، وما تغير فهو أن "الشريك" لم يعدّ مواطناً بل وافدا، وأن نسبة ما يحصل عليه أعلى أضعافاً عما كانت عليه في الأيام الخوالي، وعملياً ففي وقتنا الراهن أصبح الوضع مقلوباً؛ فـ"الشريك" يعرض على صاحب المزرعة قيمة للمحصول، وبعد ذلك يتكسب به.
وعليك أن تلاحظ أن هؤلاء "الشركاء" يعملون بقدر كبير من الكفاءة، فلديهم شبكة مترابطة (ومتعاونة) من الأشخاص من أبناء جلدتهم يقدمون خدمات رعاية المزارع من الألف إلى الياء.
وهكذا، يأتي "الشريك" ليعرض على صاحب المزرعة مبلغاً مقطوعاً نظير تخلي المالك عن المحصول جملة وتفصيلاً، ويكون الاتفاق لسنة وأحياناً لعدد من السنوات، وما أن يوثق الاتفاق حتى يجلب "الشريك" الوافد العمالة لرعاية النخل وسقايته، وفوق ذلك استغلال المزرعة في زراعة الورقيات، وجمعها وتوزيعها في صناديق وإرسالها للسوق. كل ذلك يتم بصرامة تامة وحرص على عدم تضييع أي فرصة لاستغلال المزرعة أرضاً ومياها وموقعاً.
وما يجعل ذلك ممكناً:
(1) الحافز المادي الهائل، إذ تشير بعض التقديرات أن ما يحصل عليه "الشريك" يوازي عدة أضعاف ما يدفعه للمالك!
(2) توفر العمالة المدربة لـ"الشريك" نتيجة لقيام "تعاونيات" غير مرخصة فيما بين الشركاء وأعداد كبيرة من العمالة التي تأتي على كفالة ملاك مزارع ومؤسسات تعمل ضمن المحيط الزراعي لكنها عملياً تعمل بآلية تتلاءم مع موسمية الزراعة وتبدل الأنشطة تبعاً لمواسم الزراعة والحصاد.
(3) احتكار الشبكة اللوجستية للخدمات الزراعية من قبل "الشركاء" الوافدين، وإلا لفقدوا ميزتهم التفاوضية أمام الملاك، فحتى إن وصل المالك لطرف من أطراف هذه الشبكة اللوجستية، فسيحصل على الخدمات بأعلى الأسعار، بل قد يتعرض لنكبات بألا ينفذ الطرف الآخر ما اتفق عليه.
وتجدر الإشارة أن ضبط "الشركاء" لاحتكارهم هذا أمر ضروري بل مصيري؛ إذ أن الوسيلة الناجعة لدفع الملاك للتخلي عن مزارعهم للشركاء هي الاضطرار.
السيناريو أعلاه ليس فيه مبالغة بل هو معاش في المناطق الزراعية التقليدية في مملكتنا، وقد يتفاوت الأمر من بقعة لبقعة لكن المرتكز الأساس يبقى صحيحاً، ففي التجارة تسمى تستراً أما في الزراعة فيمكن تسميتها تسلط الشركاء الأجانب!
فهل نشاط العمالة هذا مرخص؟ وهل يتم تحصيل الضرائب والرسوم النظامية على هذا النشاط الاستثماري؟ قد يظن ظان أنني أتحدث عن عشرات الملايين، بل عن مئات الملايين والعديد من المليارات.
أدرك ان تغيير الوضع الراهن غير ممكن بين عشية وضحاها، لكننا إن لم نفهمه فهماً عميقاً ونتدارس أفضل الوسائل لتعظيم استفادة المواطنين من قطاع الزراعة، فسيكون دور ملاك المزارع تماماً كدور مالك العمارة؛ يحصل ايجارها فقط. وإن كان لا بد من أن نقبل أن يؤجر الملاك مزارعهم فيكون ملائماً التفكرّ في سبل إبقاء حلقات مهمة من سلسلتي المساندة والقيمة للمواطنين المؤهلين.
لكن ذلك لن يحدث عفو الخاطر، فهو بحاجة لتحفيز، والتحفيز يحتاج لمبادرات ولبرامج تدفع بأبنائنا للمجال الزراعي بأنشطته المتعددة، وذلك يحتاج إلى تأهيل وتدريب وإتاحة الفرصة لهم، وسط حلقات من الاحتكار المطبق على الأنشطة والخدمات اللوجستية من قبل "متسببين" و"شركاء" وافدين يحققون أرباحاً عالية، وسيسعون بشتى الوسائل والطرق للحفاظ على مكاسبهم.
يحدث كل هذا، فيما نحن ننظر للقطاع عن بُعدّ وبقدر كبير من الإحباط بأنه لن يذهب بنا بعيداً، باعتبار أننا بلد صحراوي قليل المياه.
لكن ماذا عن وجاهة الحفاظ عما ورثناه برعايته وإحيائه وتطويره؟ وماذا عن أهمية السعي لإبقاء كل فرصة استثمار وكل فرصة عمل والسعي لتنميتها محلياً؟ بل وماذا عن تحقيق الأمن الغذائي؟
أم أن دورنا ينحصر بان نقول ونتنازل عن التنفيذ والكدّ لآخرين؟!
نقلا عن اليوم