في عام 1931م خطت الولايات المتحدة الأمريكية خطوة اقتصادية تبدو بمقياس ذلك الزمن وكأنها نوع من المشي فوق الخطوط الحمر التي تضعها الدول ويرسمها الأفراد لحياتهم، فقد تخلت أمريكا عن ربط عملتها بالذهب محلياً ثم ما لبثتت أن أكملت ذلك التخلي باستدارة حادة في عام 1971م حين تخلت عن ربط الدولار بالذهب على النطاق العالمي ،وهي مفارقة تطابق الطلاق التام لاتفاقية برتون وود.
بتلك الخطوة الميلودرامية دخل الاقتصاد العالمي عصر المال(الفيات) أو المال السيادي وهو عصر اقتصادي شكل قطيعة مع الماضي لأنه غيّر من معايير إصدار العملات الوطنية للدول المستقلة ،إذ لم تعد الدول ملزمة بإجراءات ربط عملاتها المحلية بالذهب.
صار المال الفيات أشبه بعش العصفور، فالعصافير عندما تريد بناء عشها فإنها تستعين بمواردها المحلية المتوفرة فتجمع الأعشاب من البيئة المحلية وتختار المكان الملائم فليس ثمة قيد يمنع العصافير من بناء عشها متى كانت المواد العشبية متوافرة في البيئة المحيطة ومتى امتلكت الطاقة والمهارة والمعرفة لبناء عشها، لا سلطان لأحد ليسائل العصافير من أين أتت بالعشب أو بالموارد التي بنت بها العش.
وهكذا طبيعة المال الفيات الذي صارت تصدره الدول ذات السيادة، فهو يمنحها حرية تكوين عشها الاقتصادي ولو بالضغط على مفاتيح أجهزة الكمبيوترات في البنك المركزي لإصدار كمية المال الذي ترغب ويناسب السعة الإنتاجية لاقتصادها.. بكلمات أخرى للدولة الحق في إصدار كتلة المال الفيات في اقتصادها ولا قيد عليها إلا قيد التضخم، ولكن هذا ما يوضح اختلاف طبيعة المال الفيات مقارنة بالمال المربوط بالذهب من حيث أن البنك المركزي يستطيع حالياً توليد كمية المال واعتماده سيولة للمصارف الخاصة، فقط من قاعدة البيانات بأجهزة الكمبيوتر.
هذا التحول في طبيعة المال الفيات طرح أسئلة حقيقية أمام الاقتصاديين حول دور المال (الفيات) ومن الأسئلة هل توجد سعة إنتاجية كافية في الاقتصاد المحلي؟
هل توجد موارد كافية وهل هناك أصول ورؤوس أموال وهل توجد أيدٍ عاملة ماهرة تستطيع مواكبة التطور في التقنية الصناعية والإنتاجية والخدمية؟
على أن الاهتمام بالاجابة على الأسئلة يهدف لقراءة أي مخاطر مستقبلية تنتج من إصدار العملات وهي تعكس تفكيراً خارج نصوص الكتب التي تدرس الطلاب ،فالكتاب الأكاديمي اليوم يتضمن معلومات تنتسب للثلاثينات أو سابقة على انهيار معايير (بريتون وود) بينما النصوص الحديثة تدفع للتأمل في طبيعة المال ووظيفته لأنه لم يعد يحتوي على قيمة جوهرية كامنة فيه ولابد والحال كذلك من استيعاب هذا البعد على مستوى الاقتصاد الكلي لأن المال السابق كان يأتي من خارج الجهاز المصرفي ولهذا صار يوصف في العلوم الاقتصادية بأنه (exogenance money) بسبب أنه مال معادل بالذهب في البنك المركزي أي أن المال القديم كان مربوطاً بمعايير ذات قيمة ثمينة مستخرجة من خارج الجهاز المصرفي بينما الفرق بينه والمال الفيات إذ إن طبيعة المال الفيات توليده من قاعدة بيانات يخلقها البنك المركزي تفعيلاً لحقه النظامي في بناء عشه الاقتصادي كيفما أراد ولهذا يوصف المال الجديد بأنه (indogenance money) أي أنه مال يأتي من داخل الجهاز المصرفي وغير معني بالتالي بفكرة الربط بأي شيء خارج هذا الجهاز.
وفي الحقيقة 97% من المال الحالي في أنحاء العالم يتكون من إئتمانات في هيئة إيداعات مما يصح معه القول بأن المصارف ليست مقيدة في تعاملاتها في تكوين إئتمانات إلا بما يتوفر لديها من رؤوس أموال أي أنها غير مقيدة بالاحتياطات أو الايداعات التي لديها عندما تكون تلك الإئتمانات أو السلفيات اللهم إلا إن كانت هناك قيود إجرائية تنظيمية تحول دون التعامل في تكوين إئتمانات أو قروض، وغني عن القول بأن أي إجراءات تظل قيوداً غير حقيقية لأنها استدعاها ظرف اقتصادي أو افتراضات أو توقعات بعينها، وما أقصد بالقيد الحقيقي أنه نابع من طبيعة الأمر أو تكوينه فالإنسان لا يستطيع أن يطير مهما لوح بيديه لأن هناك قيداً نابعاً من طبيعته ، ومثل ذلك القانون الطبيعي للماء فدرجة غليانه في كل بيئة هو 100 درجة فالقيود الحقيقية على تعامل المصارف مع المال الفيات هو حجم رؤوس الأموال وليس الأنظمة الاحترازية التي تستدعيها تحديات ظرفية أو توقعات بمخاطر تضخمية.
وخلاصة القول ،إن طبيعة المال الفيات شكلت تطوراً جديداً في مفهوم المال وقد يحدث تحولاً إيجابياً مستقبلياً يفيد في تسريع عجلة التنمية المحلية عبر ضخه في الاقتصاد المحلي لرفع وتيرة نموه وتحقيق استقرار اجتماعي واقتصادي يعزز من المركز الاقتصادي للدول ويرفع من تصنيفها العالمي ويجذب التدفقات الاستثمارية بما لها من إيجابيات بخلق فرص وظيفية تستوعب الأيدي الباحثة عن العمل على أن تكامل التدفق الاستثماري ومال الفيات المحلي بالاقتصاد يحدث الفروق وهذا ما يجعلني أعيد التذكير بأنه ليس ثمة قيد حقيقي على عدد الأرقام التي تأتي من داخل الجهاز المصرفي الذي يصدر العملة الوطنية أي أن العصافير حرة في بناء عشها من موارد البيئة المحلية لا تمنعها إلا مهاراتها وطاقاتها وحسن خياراتها.
نقلا عن المدينة