كما وعدت، أقدّم في هذه السلسلة تفاصيل دقيقة حول كيف تشكّل قطاع الفنتك في المملكة العربية السعودية والمنطقة ككل — من أين بدأنا، وكيف تطور، وإلى أين يقودنا اليوم. هدف هذه السلسلة هو توثيق رحلة بدأت من فكرة التحول الرقمي في الخدمات المالية إلى بناء منظومة اقتصادية حديثة يقودها الابتكار والثقة. وفي هذا المقال، سنركّز على مرحلة التسعينات، العقد الذي كان بمثابة النقطة المفصلية في تاريخ الفنتك السعودي، حين وضعت المملكة الأسس الأولى للتقنية المالية التي غيّرت مستقبل المنطقة بأكملها.
البداية: تأسيس الشبكة السعودية للمدفوعات – “SPAN”
في منتصف التسعينات، أطلقت مؤسسة النقد العربي السعودي (ساما) واحدة من أهم المبادرات الاقتصادية في تاريخ المنطقة — الشبكة السعودية للمدفوعات (SPAN) . جاءت هذه المبادرة برؤية استراتيجية تهدف إلى ربط جميع البنوك المحلية في شبكة وطنية موحدة تمكّن العملاء من السحب، الإيداع، والتحويل من أي مكان داخل المملكة، دون التقيد بفرع محدد أو بنك بعينه.
كانت تلك الخطوة ثورية بمعايير ذلك الزمن، إذ بينما كانت أغلب دول المنطقة تعتمد على النقد الورقي والشيكات، كانت المملكة تبني نظام دفع إلكتروني متكامل وآمن — خطوة سبقت عصرها وأظهرت نضجًا مؤسسيًا غير مسبوق في التعامل مع التقنية.
من الورق إلى التقنية: أول مظاهر التحول المالي
قبل التسعينات، كانت الخدمات المصرفية تعتمد على الفروع والمعاملات الورقية، ما كان يستهلك وقتًا وجهدًا كبيرين من الأفراد والشركات. لكن مع إطلاق SPAN، دخلت السعودية مرحلة جديدة من التاريخ المالي، حيث انتقلت البنوك إلى الأتمتة الرقمية، وتم توحيد أنظمة الصرافات الآلية ونقاط البيع لتغطي جميع مدن المملكة.
بهذا التحول، أصبحت العمليات المالية أسرع وأكثر أمانًا وشفافية، وبدأ المواطنون والمقيمون يتعاملون بثقة مع الأنظمة التقنية الحديثة، ما مهّد الطريق لانتشار المدفوعات الإلكترونية على نطاق واسع.
الأثر الاقتصادي والاجتماعي
كان لهذا التغيير أثر عميق على الاقتصاد الوطني، حيث مكّن الشركات والمتاجر من قبول المدفوعات إلكترونيًا، ما زاد من حجم المبيعات وسرّع عمليات البيع والشراء. كما ساعدت البنوك في تطوير خدمات تمويلية مبتكرة وسريعة، مما عزز العلاقة بين المستهلك والمؤسسات المالية، ورفع مستوى الكفاءة التشغيلية للقطاع المصرفي.
لم يكن هذا النجاح حكرًا على السعودية، بل أثر بشكل مباشر في المنطقة بأكملها؛ فدول الخليج بدأت تراقب التجربة السعودية وتحاول تطبيق أنظمة مماثلة، ما جعل المملكة المرجع الإقليمي في المدفوعات الإلكترونية والتنظيم المالي في الشرق الأوسط.
من الشبكة السعودية للمدفوعات إلى مدى : الأساس الذي بُني عليه المستقبل (MADA)
بنهاية التسعينات، كانت المملكة قد وضعت الركيزة الأساسية الذي انطلقت منه الأنظمة الحديثة مثل “مدى (MADA) وأنظمة التحويل الفوري . لكن لا يمكن فهم تلك التطورات دون العودة إلى ما تحقق في التسعينات؛ فخلال ذلك العقد، تم بناء الثقة في التقنية، وتثبيت مفهوم
الأمان المالي الرقمي، وتشكيل البنية التحتية التي ما زالت تُستخدم حتى اليوم.
لقد أثبتت السعودية في التسعينات أن الابتكار المالي يبدأ من الرؤية والتنظيم، لا من التقنية فقط، وأن الاستثمار في البنية المصرفية الذكية يمكن أن يغيّر شكل الاقتصاد لعقودٍ قادمة.
خاتمة
كانت التسعينات عقد التحول الحقيقي للفنتك السعودي - عقد وضعت فيه المملكة القواعد التي جعلتها سبّاقة في رقمنة المال والخدمات المصرفية في المنطقة. وفي المقال القادم بإذن الله، سأتحدث بتفصيل عن مرحلة الألفية الثانية (2000)، وكيف تطورت تلك البنية إلى أنظمة دفع ذكية ومؤسسات فنتك متكاملة.
خاص_الفابيتا


