برامج التوازن الاقتصادي هي أداة لدفع الشركات الفائزة بعقود حكومية كبيرة للمساهمة في تحقيق أهداف وطنية عالية من تدريب للموارد البشرية المحلية أو استثمار في مشاريع ناشئة بما يؤدي لتنويع الاقتصاد المحلي.
وكانت المملكة من أولى الدول التي سعت للاستفادة من هذه الأداة ساعية لاستفادة الاقتصاد المحلي من العقود العسكرية.
وبالفعل انطلق برنامج التوازن الاقتصادي بالشراكة مع البريطانيين، كان المؤمل أن يحقق البرنامج نقلة نوعية مهمة في نقل التقنية البريطانية وحفز استثماراتها في البلاد، لكن ما حدث هو عدد محدود من المشاريع المشتركة.
والحديث هنا ليس عن الاستثمارات البريطانية في المملكة عموماً، بل محدود بما نتج مباشرة عن برنامج التوازن.
انطباعي، أن البرنامج لم يحقق ما كان مؤملاً منه، وانطباعي كذلك أن الشركة البريطانية ذات الصلة "تجرجر أقدامها" لإطلاق المزيد من مشاريع التوازن، وإن كان الأمر غير ذلك فليتحفونا بتقرير واضح بالإنجازات المتحققة مقارنة بما كان مؤملاً في الأساس.
وبالتأكيد، برنامج التوازن ذاك كان البداية وتجربة، لكن بغض النظر عن الكيفية والزخم الذي قد ينتجه برنامج التوازن مع البريطانيين، فهو لا يمكن أن يكون منتهى تطلعاتنا فيما يتصل بدور برامج التوازن.
بل يتابع ونجهد لتفعيل البرنامج وإعادة هيكلته ليؤدي دوره كما كان متوقعاً، وفي ذات الوقت نسعى لاطلاق برنامج توازن أشمل.
والبرنامج الوطني للتوازن الاقتصادي يقترح أن يكون أوسع وأشمل؛ من حيث إنه لا يقتصر فقط على العقود العسكرية، بل جميع العقود الحكومية الموقعة حصراً مع أطراف خارجية.
بمعنى أن مشاريع كمشاريع القطارات والمترو يمكن بسهولة أن تخضع لمفهوم التوازن الاقتصادي بالنظر لضخامتها وتأثيرها الاجتماعي- الاقتصادي الكبير.
حيث يمكن أن تنتج عنها عشرات الفرص الاستثمارية ذات الصلة بقطاع النقل بالقطارات والمترو، أو بالأنشطة المرتبطة بها.
كما أن هذه المشاريع لها محتوى تقني متشابك، يتطلب انشاء شركات محلية لتقديمه، إذ ليس عملياً أن تستمر عقود التوريد والصيانة مع الشركات الأجنبية لسنوات طويلة، بل مفيد إطلاق مشاريع صغيرة ومتوسطة لتوطين خدمات ما بعد البيع.
وفي ظني، مازال المجال متسعاً لإضافة برنامج توازن اقتصادي للمشاريع المدنية، بما يشمل القطارات والمترو، فهي جزء من البنية التحتية التي يؤمل أن تساهم في تنويع الاقتصاد السعودي.
ومع ذلك، فإن وضع لائحة وتفاصيل، بل وحتى نظام (قانون) لبرامج التوازن الاقتصادي سيجعل الأمر محسوماً وواضحاً جلياً لا مفاجآت فيه عند قدوم المقاولين الأجانب للمملكة.
وسيساهم كذلك في ضبط التوقعات من جانب والالتزامات من جانب آخر، وجهد من هذا النوع بحاجة لطرف حكومي، ليشرف ويراقب ما ينجز على أرض الواقع. وعلينا أن نتذكر، أن أمامنا سيلا من العقود المهمة التي ستوقع في أنشطة نعول عليها كثيراً مثل قطاع الطاقة البديلة والمتجددة، وهذه لا بد لها من برنامج توازن يستوعب تطلعاتنا المحلية على أكثر من صعيد.
ولا بد من بيان أن برامج التوازن الاقتصادي لدينا عايشت بدايات تحديث الاقتصاد السعودي بعد اكتشاف النفط، فما قامت به شركة أرامكو قبل توطينها، كان بمثابة أكبر برنامج توازن اقتصادي عرفه التاريخ.
وما المدن التي أنشئت في الصحراء كالظهران والخبر والثقبة إلا أمثلة، وتضاف لها المدن المحاذية لخط "التابلاين".
ولا ننسى ما ساهمت به الشركة - التزاماً وليس منةً - للمجتمعات المحلية المحيطة بمناطق عملها في الأحساء والقطيف، ابتدءا، وبعد ذلك لأنحاء المملكة.
كما تجدر الإشارة إلى أن المفاوضات مع الجانب الياباني لتجديد امتياز انتاج النفط كان في الأساس لضعف مساهمته في التنمية الاجتماعية- الاقتصادية في محافظة الخفجي وما حولها.
وهكذا، فالاهتمام بالربط بين النشاط الاقتصادي للشركات الأجنبية والتنمية الاجتماعية- الاقتصادية ليس أمراً مستجداً في المملكة، بل قديما مستقرا.
ويبدو أننا بحاجة لتقنين حديث ومتكامل لمفهوم التوازن الذي يساهم في تنويع اقتصادنا آخذاً في الاعتبار الهيكلية الاقتصادية القائمة حالياً، وما تسعى الخطط الخمسية لتحقيقه، خصوصاً بعد أن أصبح ملف المنشآت الناشئة والصغيرة والمتوسطة ذا أهمية متعاظمة، بعد أن أخذت أهمية تلك المنشآت في الظهور كمصدر لتوليد الوظائف ولإيجاد فرص الاستثمار التي تستوعب طموح الشباب إجمالاً والرياديين منهم على وجه التحديد.
لكن لا بد من عودة لأصدقائنا البريطانيين لاستخراج برنامج التوازن من سباته الطويل، مقارنة بما عايشه الاقتصاد السعودي من تقلبات منذ إطلاق برنامج التوازن حتى الآن، والعمل سوياً وبحماس لجعله بذاته قصة نجاح.
قيام شركة هنا أو هناك هي بوادر، لكن قصة النجاح المحتسبة لبرنامج التوازن هو ما يحدثه من تنوع وإضافة قيمة للاقتصاد ككل وليس طلقات متقطعة هنا وهناك بينها فواصل زمنية تستغرق سنوات من ركود وهدوء وسبات.
نقلا عن اليوم