تحدثنا في المقال السابق عن توجه دول مجلس التعاون الخليجي لفرض ضريبة القيمة المضافة لدعم موازناتها المعتمدة على النفط، وللتعويض عن جزء من الفاقد في الإيرادات الجمركية نتيجة إنضمامها لمنظمة التجارة العالمية.
وذكرنا بعض عيوب هذا النوع من الضرائب من الناحية الاقتصادية والاجتماعية. واليوم نتطرق إلى الحل البديل والذي اشرت إليه في نهاية المقال السابق والذي أعتقد أنه اكثر جدوى وكفاءة اقتصادية وهو الضريبة على الأراضي.
الضريبة على الأراضي ليست أمراً جديداً فهي مطبقة في حوالي 30 بلداً حول العالم، وفي التاريخ الإسلامي يعتبر الخراج بمثابة الضريبة على الأراضي.
لكن النقاش السائد حالياً يدور حول الضريبة على الأراضي البيضاء فقط، لذا فهو يطرح حل جزئي لمشكلة إرتفاع أسعار الأراضي البيضاء، ولا يعطي صورة متكاملة لأهمية الضريبة على الأراضي والآثار الاقتصادية المتوقعة لها.
كما أن هذا النقاش يستهدف فئة معينة من الناس دون سواهم وهذا يضر بمبدأ العدالة الإحتماعية.
بالإضافة إلى أن العائد المتوقع من الضريبة على الأراضي البيضاء وحدها محدود ولا يشجع الحكومة على تبني هذه الضريبة كمصدر للدخل.
وهنا سأقوم بتقديم رؤية مختلفة للضريبة على الأراضي أعتقد أنها أكثر شمولية وجدوى من الطرح السائد حالياً.
والذي أقصده بالأراضي هنا هي جميع الأراضي التي تقع تحت سيادة الدولة وتعود ملكيتها للقطاع الخاص أو الأفراد، سواءً كانت هذه الأراضي بيضاء أو تم البناء عليها بغرض السكن أو الاستثمار.
ويتوقع أن يكون لهذا النوع من الضرائب آثاراً تنمويةً هامة على المستوى الاقتصادي والاجتماعي والبيئي والأمني، وبذلك فهي ستكون معينة على تحقيق التنمية المستدامة.
والضريبة المقترحة هنا على الأراضي هي ضريبة متدرجة حسب استخدام الأرض. مثلاً 10% على الأراضي البيضاء، ثم تنخفض إلى 3% على الأراضي المقام عليها مباني استثمارية، و 1% على الأراضي المقام عليها سكن خاص لصاحبها.
وتفسير أسباب هذا التدرج هو كما يلي: ضريبة 1% على الأراضي المقام عليها سكن خاص هي عبارة عن رسوم لما تقدمة الدولة من بنية تحتية وخدمات لصاحب هذا المسكن. وضريبة 3% على الاراضي المقام عليها مشاريع استثماريه هي أيضاً عبارة عن رسوم لما تقدمه الدولة من بنية تحتية وخدمات في المنطقة التجارية المقام عليها المشروع والتي عادة ما تفوق تكلفتها تلك المقدمة في المناطق السكنية.
أما ضريبة الـ 10% على الأراضي البيضاء فيقصد منها تحفيز مالكي هذه الأراضي على استثمارها بشكل أفضل، أو بيعها لشخص آخر قادر على ذلك، بما يعود على الاقتصاد والمجتمع بالنفع.
الأسباب الاقتصادية
فيما يلي شرح للأسباب الاقتصادية الداعية لفرض ضريبة الأراضي حسب الأقسام التي ذكرناها.
الضريبة على الأراضي البيضاء:
يقوم العديد من تجار الأراضي باحتكار مساحات شاسعة من الأراضي السكنية والتجارية والمضاربة عليها لتحقيق عوائد مرتفعة. ويحتفظ البعض من هؤلاء بهذه الأراضي لسنوات طويلة ليستفيد من تطور البنية التحتية وقيام المشاريع التنموية في المنطقة المحيطة بأرضه لتحقيق أرباح عالية دون أي جهد يذكر من قبله.
وبذلك فإن المستفيد الوحيد من هذه الأرباح هو مالك الأرض وحدة، ولا يعود أي جزء من هذه الأرباح على الاقتصاد أو المجتمع بأي نفع، بل على العكس فهذه الممارسات أضرت بالاقتصاد والمجتمع من عدة نواحي، نذكر منها:
1-تجميد الآف البلايين من الريالات في أراضي جرداء وحرمان الاقتصاد من موارد مالية ضخمة كان بالإمكان تحويلها إلى مشاريع منتجة تخلق العديد من فرص العمل.
2-رفع تكلفة الاستثمار، أدت الممارسات الاحتكارية للأراضي التجارية إلى حجب جزء كبير منها عن السوق وهو ما نتج عنه ارتفاع أسعارها بشكل مبالغ فيه، والذي أدى بدوره إلى تقليل الجدوى الاقتصادية لقيام العديد من المشاريع الاستثمارية التي كان يمكن الاستفادة منها في زيادة حجم الانتاج وتوفير العديد من فرص العمل.
3-رفع تكلفة البنية التحتية والخدمات، أدى حجب جزء كبير من الأراضي بشتى أنواعها عن السوق وارتفاع أسعارها إلى توسع افقي كبير في مساحات المدن بحثاً عن أراضي أقل تكلفة. وهذا أدى بدوره إلى مضاعفة الاستثمار من قبل الدولة في البنى التحتية لتغطية هذه المساحات المتزايدة.
يضاف إلى ذلك الضغط الكبير على مختلف الخدمات كخدمات الكهرباء والمياه والصرف الصحي والنظافة والخدمات الإدارية والصحية والأمنية، حيث تتكبد الجهات المقدمة لهذه الخدمات تكاليف عالية لإيصال خدماتها للأطراف المتباعدة للمدن.
4-ارتفاع تكلفة السكن، أدى إحتكار الأراضي السكنية والمضاربة عليها إلى ارتفاع قيمة الأراضي السكنية إلى مستوى يفوق قدرة كثير من السكان. وأصبحت تكلفة الأرض في بعض المناطق تعادل ثلاثة اضعاف قيمة المنزل المقام عليها. ومع هذا الغلاء أصبحت قيمة القرض السكني الذي تقدمة الدولة للمواطنين غير كافية لتملك مسكن، ما حدا بالدولة لزيادة حجم القرض من 300 الف ريال إلى 500 الف ريال، ثم إلى الاتفاق مع البنوك المحلية لتقديم قرض إضافي للمواطنين.
إلا أن الشروط المطبقة من قبل البنوك لتقديم القرض السكني الإضافي لا تنطبق على كثير من طالبي السكن، وتكلف أولئك الذين تنطبق عليهم أعباءً هائلة.
وقد تضافر الطلب الكبير على المساكن، في مجتمع ينمو عدد سكانه بنسبة 3% سنويا وتشكل فيه فئة الشباب حوالي 60%، مع هذه الممارسات الاحتكارية في خلق أزمة سكن خانقة.
ما أضطر أولئك غير القادرين على توفير قيمة الأرض أو شراء منزل إلى اللجوء إلى الإستئجار والذي ارتفعت تكلفته بشكل كبير جداً، حيث أدى الطلب الكبير على شراء المنازل القائمة ـ حتى وإن كانت قديمة ومتهالكةـ إلى ارتفاع اسعارها بشكل كبير ما حدا بملاك العديد من المساكن القابلة للإيجار لعرضها للبيع بدلاً من الإيجار.
وارتفاع الإيجارات أثر وبشكل كبير على قدرة المستأجرين على الإدخار بالتالي حلمهم في اقتناء مسكن خاص.
5-تدني مستوى جودة المساكن، أدى ارتفاع قيمة الأراضي إلى ارتفاع تكلفة السكن بشكل كبير كما أشرنا، ولتقليل تكلفة البناء لجأ العديد من أصحاب المنازل والمستثمرين في بنائها إلى البحث عن أرخص مواد البناء تكلفة، والبناء بأقل المعايير الهندسية.
وفي دراسة أعدها الاتحاد الدولي للمهندسين الاستشاريين ونشرت صحيفة الاقتصادية في العدد 7344 بعض نتائجها وأهمها بأن 40% من مواد البناء في السوق السعودي هي مواد مقلدة وتشكل خطورة بالغة على سلامة الأفراد والمنشآت.
والمتأمل في نوعية المساكن المقامة حديثاً خصوصاً من قبل بعض الشركات الاستثمارية يلاحظ مدى رداءة مواد البناء والتنفيذ لهذه المساكن، بحيث أضطر العديد من أولئك الذين قاموا بشراء مثل هذا النوع من المساكن إلى ترميمها مع أنها جديدة!
الضريبة على الأراضي المقام عليها منشآت استثمارية
الضريبة المفروضه على هذا النوع من الاراضي وقدرها 3% مثلاً، هي تشجيع لملاك الأراضي لاستثمارها بشكل أفضل نظراً لإنخفاض الضريبة من 10% إلى 3%.
ومن ناحية أخرى فهي ستؤدي إلى رفع تكلفة الوحدات غير المؤجرة أو المباعة على المستثمر، لذا سيلجأ المستثمر إلى تأجيرها/بيعها بأسرع وقت ممكن للإستفادة من عائداتها في دفع قيمة الضريبة.
كما يؤدي تزايد الاستثمارات المماثلة نتيجة انخفاض أسعار الأراضي البيضاء بعد فرض الضريبة إلى زيادة المنافسة بين المستثمرين في المباني بشتى أنواعها، وستؤدي هذه المنافسة إلى تخفيض الأسعار من جهة وإلى تحسين مستوى جودة التنفيذ من جهة أخرى بهدف جذب العملاء، وهذا كله يصب في مصلحة المستهلك النهائي.
وقيام العديد من المنشآت الاستثمارية نتيجة انخفاض أسعار الأراضي البيضاء بعد فرض الضريبة وزيادة المنافسة يزيد من الحركة الاقتصادية ومن توفير فرص العمل.
الضريبة على أراضي المساكن الخاصة
هذه الجزئية ربما ستكون هي الأقل قبولاً لدى القراء، لكني أعتقد أنهم إذا ما أدركوا البعد التنموي لهذه الضريبة فإنهم لن يمانعوا فيها. وكما أشرت مسبقاً فإن هذه الضريبة عبارة عن رسوم لما تقدمه الدولة من خدمات لهذا الحي السكني أو ذاك، ومن المعلوم أن قيمة الأراضي في الأحياء السكنية تختلف باختلاف مستوى الخدمات المقدمة فيها.
وضريبة الـ 1% على قيمة الأرض السكنية المقام عليها مسكن خاص، ستكون حافزاً مهما للدولة لتطوير مستوى الخدمات في كافة الأحياء لرفع قيمة الأرض بالتالي العائد الضريبي المتحصل منها.
وفي ذلك خدمة لصاحب المنزل من ناحيتين الأولى تحسن مستوى الخدمات المقدمة في الحي الذي يسكن فيه، والثاني ارتفاع قيمة الأرض المقام عليها مسكنه ومسكنه ككل.
وإذا ما قارن الفرد بين دفعه لضريبة القيمة المضافة على مشترياته اليومية وبين دفع الضريبة على الأرض المقام عليه مساكنه فإنه ولا شك سيفضل الثانية لانخفاض عبئها المالي عليه.
وهكذا نجد أن ضريبة الأراضي تعتبر بديل أكثر كفاءة من ضريبة القيمة المضافة نظراً لما تقوم به من إصلاح لإختلالات السوق الناتجة عن الممارسات الأحتكارية.
بالإضافة لتوفيرها لمصدر دخل جيد ومضمون للدولة، ولآثارها التنموية المتعددة التي تشمل تشجيع الإستثمار وزيادة الانتاج وخلق المزيد من فرص العمل وتيسير فرص الحصول السكن وتحسين مستوى البنية التحتية والخدمات.
وفي المقال التالي سنوضح آلية عمل هذه الضريبة وآثارها المتوقعة.