يكاد يجزم كافة المحللين أن بطء جولة مفاوضات التجارة العالمية أرغمت معظم الدول على استبدال مفهوم العولمة بمبادئ الأقلمة، وذلك لتشجيع التكامل الإقليمي بينها، مما رفع عدد الاتفاقيات التجارية الإقليمية إلى 240 اتفاقية، أهمها الاتحاد الأوروبي، وأفضلها مجموعة "نافتا" لدول شمال أميركا، وأكبرها مجموعة "آسيان" لدول شرق آسيا.
وتحتوي هذه الاتفاقيات على خمس خطوات رئيسة.
الخطوة الأولى تبدأ بإنشاء منطقة تجارة حرة لإزالة كافة الرسوم الجمركية بين الدول الأعضاء في الإقليم الواحد، مع احتفاظ كل دولة برسومها تجاه العالم الخارجي، مثل اتفاقية "نافتا" بين أميركا وكندا والمكسيك، واتفاقية "ميركوسور" بين دول جنوب أميركا.
وتأتي الخطوة الثانية بعد إنشاء الاتحاد الجمركي، الذي يتم فيه توحيد الرسوم الجمركية لدول الإقليم تجاه العالم الخارجي، مثل الاتحاد الجمركي الخليجي.
أما الخطوة الثالثة فتعتمد على تكوين السوق المشتركة، للجمع بين منطقة التجارة الحرة وحرية انتقال عناصر الإنتاج من عمالة وخدمات ورؤوس أموال مثلما هو قائم في السوق الأوروبية المشتركة.
وفي الخطوة الرابعة تتبع دول الإقليم الواحد سياسة نقدية موحدة، يتم فيها تنسيق السياسات المالية وإطلاق العملة الموحدة والبنك المركزي الواحد.
أما الخطوة الأخيرة للأقلمة فتنضوي على تكوين تكامل اقتصادي متكامل تتوحد من خلاله جميع السياسات الاقتصادية بين دول الإقليم، بحيث يكون الأداء الاقتصادي للتكتل الإقليمي مثل أداء الدولة الواحدة، وهو ما يسعى إليه حاليا الاتحاد الأوروبي.
للأسف الشديد إن الدول العربية التي بدأت الخطوة الأولى من مراحل التكامل الاقتصادي بإطلاق منطقة التجارة الحرة في تجارة السلع فقط، والتي كان من المفروض لها أن تدخل حيز التنفيذ عام 1998، فشلت بسبب الحواجز غير الجمركية التي أعاقت تدفق السلع بينها.
كما أدت القيود الكمية، مثل نظام حصص الاستيراد وقيود الصادرات وإعانات التصدير والمواصفات الفنية، بالإضافة للإجراءات النقدية والرقابة على التحويلات وتعقيدات فتح الاعتمادات وتعدد الجهات، إلى تعقيدات بالغة وبالتالي فشل اتفاق المنطقة الحرة.
هذا في الوقت الذي نجحت فيه اتفاقية السوق المشتركة للشرق والجنوب الأفريقي المعروفة باسم "كوميسا"، واتفاقية دول الاتحاد الاقتصادي لأفريقيا الوسطي المعروفة باسم "إيكاس"، واتفاق التجمع الاقتصادي لدول غرب أفريقيا المعروف باسم "إيكواس".
الدول الخليجية، وبعد مضي 24 عاما على بدء مفاوضات التجارة الحرة مع الاتحاد الأوروبي، تخفق في التوصل اليوم إلى اتفاق يرضي كافة الأطراف.
فبينما وصل حجم التبادل التجاري بين المجموعتين في الوقت الحاضر إلى 100 مليار دولار أميركي، ما زالت المفاوضات الخليجية الأوروبية تواجه حتى اليوم العديد من المواضيع المعلقة والشائكة.
الدول الخليجية تطالب نظيراتها الأوروبية بفتح قطاع خدمات توزيع وقود السيارات ونقل الوقود عبر الأنابيب، والاتحاد الأوروبي يرفض الالتزام بهذين الطلبين.
وفي المقابل يصر الاتحاد الأوروبي على مطالبة الدول الخليجية بإدراج المؤسسات والشركات الحكومية الخليجية التي تتمتع بحقوق حصرية ضمن أحكام أنظمة حماية المنافسة، واستخدام رسوم الصادرات الخليجية ضمن قيود محددة، بحيث يتم الاتفاق مسبقا على هذه الرسوم التي ينوي أي من الطرفين تطبيقها وألا تتجاوز مدد تطبيقها ثلاث سنوات قابلة للتجديد لمدة سنتين إضافيتين فقط، وألا يتم تطبيق هذه الرسوم على أكثر من 3% من القيمة الإجمالية للصادرات، وأن يكون تطبيقها في السنوات العشر الأولى من الاتفاقية، وقد رفضت جميع الدول الخليجية هذه الطلبات.
كذلك يطالب الاتحاد بحظر القيود الكمية الخليجية على الإنتاج والتصدير والتسويق للمواد البتروكيماوية، الذي قابلته الدول الخليجية بالرفض التام وخاصة السعودية، التي تمتلك 73% من الصناعات البتروكيماوية الخليجية، لما لهذا الطلب المجحف من تقييد يتجاوز ما نصت عليه اتفاقات منظمة التجارة العالمية.
ولم تتوقف طلبات الاتحاد الأوروبي عند هذه الحدود، بل تجاوزتها إلى المطالبة بتضمين اتفاقية التجارة الحرة الخليجية الأوروبية مادة قانونية تنص على أنه إذا فشل أحد الطرفين في الوفاء بالتزاماته الخاصة بالمعايير الأساسية لحقوق الإنسان والديموقراطية وأسلحة الدمار الشامل، فإنه يحق للطرف الآخر اتخاذ الإجراءات المناسبة وفقا للقانون الدولي.
الدول الخليجية تعد خامس أكبر سوق للاتحاد الأوروبي حاليا، بينما يمثل الاتحاد الأوروبي الشريك التجاري الأول لدول المجلس، وتتركز الصادرات الأوروبية لدول المجلس في قطاعي الآلات والنقل التي تشكل 54% من جملة الصادرات، كما تشمل محطات تحلية المياه وعربات القطارات والطائرات والأدوات الكهربائية، فيما يستورد الاتحاد الأوروبي 70% من منتجات الوقود من دول الخليج.
إلى يومنا هذا، ما زال الاتحاد الأوروبي يفرض رسوم ضريبة الكربون بحدود 50% على صادرات دول الخليج من النفط ومشتقاته، و6% على صادرات دول الخليج من الألمونيوم، مما كان له الأثر المباشر في رفع أسعار منتجات دول الخليج من النفط والبتروكيماويات والألمونيوم في الأسواق الأوروبية.
ونظرا لأن هذه السلع تمثل أهم عناصر الصادرات الخليجية إلى أوروبا بنسبة 82% من إجمالي الواردات الأوروبية، بينما تمثل الآليات ووسائط النقل أهم الصادرات الأوروبية بنسبة 83% من إجمالي الواردات الخليجية، فإن التجارة الخليجية مع أوروبا تمثل أهمية بالغة، إذ تساوي 25% من قيمة تجارة الدول الخليجية مع العالم أجمع والتي تصل إلى 450 بليون دولار سنويا.
على الدول الخليجية أن تبدأ فورا مفاوضات التجارة الحرة مع مجموعة "آسيان" لدول شرق آسيا ومجموعة "ميركوسور" لدول جنوب أميركا، حتى لا يفوتنا قطار الأقلمة.
نقلا عن الوطن
مقالة ممتعة..