أشرنا في المقال السابق إلى أن حظر البترول لعام 1973، وما تلاه من سياسيات وردود افعال، كل ذلك هيأ منظمة الأوبك للأخذ بيدها زمام المبادرة في عملية تسعير نفطها الخام على المستوى العالمي، وأصبح موضوع تحديد أسعار نفطها عملاً من أعمال السيادة الوطنية على الموارد الطبيعية يتم اتخاذه من الدول الأعضاء وحدها دون الرجوع الى استشارة او مفاوضة جهة اجنبية متمثلة بشركات النفط الكبرى، ولكن يبقى اشكالية خطيرة بشأن التسعيرة، وهي أنه وبما أن تسعيرة البترول كانت بالدولار وهو الذي سبق وان قامت أمريكا في عام 1970 باتخاذ خطوات احترازية وذلك بسحب غطاء الذهب عن الدولار، فلقد أفقد اوبك اهم ما كانت تتوهم أنها اكتسبته بعد الازمة البترولبة وهو زمام المبادرة بتحديد أسعار نفوطها تلك، فهذ المكتسب قد افتقد إلى اي مضمون؛ كون ان امريكا الآن هي من يحدد قيمة الدولار حسب اهوائها وليس بمعيار الذهب كما كان معمولا به قبل 1970م، وبالتالي فإن أمريكا هي من يحدد سعر دولارها وتعقدت عملية التسعيرة وبرزت مشاكل جمة مرتبطة بها، كما نتج عن ذلك عوامل كثيرة مرتبطة بالدولار في تحديد اسعار نفوط اوبك، كما كان للتغييرات السياسية في اقطار اوبك تأثيرها المحسوس والمباشر على اسعار البترول، فالازمات السياسية والصراعات والقلاقل المحلية والحروب الاقليمية والتهديدات العسكرية والارهابية حول منابع وامدادات نقل البترول الى الاسواق العالمية – مثل مضيق هرمز، مضيق عدن، قناة السويس، مضيق البسفور وغيرها من المنافذ البحرية التي تمر فيها ناقلات البترول كل هذه عوامل اثرت وتؤثر في الاسعار مما ألقى بظلاله -وما زال- على علاقات الدول الكبرى واقطار اوبك وتعميق ازمة الصراعات والتنافس حتى بين دول منظمة أوبك نفسها، وفي هذا المقال سنلقي الضوء على اهم محطة اختتم عقد السبعينيات بها وهو انتهاء امبراطورية الشاه وقيام الثورة الايرانية وما تلاه من انعكاسات على منظمة اوبك في الثمانينيات والتسعينيات.
سقوط شاه ايران وانهيار الاتحاد السوفييتي واجتياح الكويت
شكلت الثورة الايرانية التي قامت في عام 1979م منعطفاً جديدا، حيث كان لها نتائج كبيرة وآثار ملموسة في تغيير اوضاع وسياسات المنطقة برمتها وبالتالي السياسات التسعيرية للبترول لاقطار منظمة أوبك.
لقد كانت السياسة البترولية لشاة ايران خلال السبعينيات نوعا من تنامي الاستقلالية عن الغرب ويشوبها نوع من التشدد، وكان لها تأثير كبير في ارتفاع اسعار البترول خصوصاً عندما قررت إيران ان تبيع النفط الخام الايراني بالمزاد العلني وذلك بنهاية عام 1973، وبالتالي إنشاء سوق روتردام الحرة للبترول، مما تشكل على ضوئها مضاربة محمومة على النفط في كل مكان وأشعل سباق اسعار البترول واندفعت الأسعار بسرعة من 4$ للبرميل الى 17$ للبرميل خلال عام 1974م مما شكل أكبر خطر على الدولار واقتصاديات الدول الغربية.
لقد كانت سياسة الشاة البترولية المستقلة والمتشددة تجاه الغرب هي السبب الذي ادى الى تخلي الغرب عنه والذي كان الشاه يعتمد على تلك الحماية الامريكية لاستمراره منذ ان اعادته السي آي أ الى سدة الحكم عام 1953م، وبالتالي فرفع هذه الحماية الأمريكية عن الشاه كانت من اهم الاسباب التي ادت الى سرعة سقوطه، وكان اضراب العمال في ايران وما قام به الشاه باستيراد مليون عمال من الاجانب الشرارة التي اشعلت الثورة الايرانية في ظل تخلي الغرب عنه، حيث تكاتف مع العمال المضربين رجال الدين المعارضين بشدة لسياسة الشاه تجاههم ايضا قبل عامين في عام 1977م بسبب إلغائه للاعانات التي كانت الدولة تقدمها لهم، وتشكلت جبهة من العمال المضربين ورجال الدين المتذمرين الذين استغلوا نقمة العمال المضربين وعارضوا استيراد العمال الاجانب تضامنا مع العمال المواطنين الذين سيفقدون اعمالهم وسبغوا عليها معارضة دينية من باب أن استيراد العمال الاجانب سيؤدي الى استيرداد العادات الغربية السيئة وانتشار الالحاد في ايران، وبدأت الخطب الدينية الملتهبة ضد الشاه وحكومته تنتشر، مما ساعد على تكاتف المعارضة بشتى اطيافها على المستوى الداخلي والخارجي، وبدأت الاضطرابات في مدينة قم في نهاية عام 1978 وانتقلت بعدها الى معظم المدن الكبرى كمشهد وتبريز واصفهان والعاصمة طهران، مما اضطر الشاه الى إعلان الاحكام العرفية، وطالب رئيس أمريكا جيمي كارتر أن يحترم الشاه حقوق الانسان والديموقراطية، وتصاعدت المعارضة وأضرب عمال البترول اضراباً عاماً قلص الانتاج من 5 ملايين الى 100 الف برميل في اليوم، مما ادى الى شلل الصناعة، ورافقتها اعمال تصعيدية من قبل الجماهير الذين قاموا بإحراق السفارات والمصارف والوزارات وانتهت بمحاولة هروب الشاه الى امريكا ولكن رفضت استقباله وفي النهاية لجأ الى مصر وسقط نظام الشاه واقيمت الجمهورية الاسلامية الايرانية في عام 1979م.
لقد كان للثورة الإيرانية لعام 1979م، بالاضافة الى قيام مسلحين باحتلال الحرم واعلان قدوم المهدي، وما تلاه من الحرب العراقية - الإيرانية التي استمرت الى عام 1988م تأثير كبير في رفع أسعار النفط الخام العالمي لأكثر من الضعف من 14 دولارا للبرميل إلى أكثر من 35 دولارا للبرميل عام 1981م، ثم ما لبثت وتدهورت الأسعار بعد ذلك بعامين وحاولت «أوبك» أن تتدخل بتقنين الإنتاج إلى مستوى تستقر عنده الأسعار، ولكن لم تنجح أوبك في ذلك؛ بسبب أن معظم أعضائها لم يتفقوا وكانوا ينتجون كميات أعلى مما خصص لهم وأدى ذلك إلى انهيار الأسعار في منتصف عام 1986 إلى ما دون العشر دولارات للبرميل، مما دفع الأوبك إلى الاتفاق على هدف سعر 18 دولارا للبرميل، ولكن استمرت الأسعار منخفضة إلى انتهاء حرب الخليج الأولى وسقوط الاتحاد السوفيتي الذي عانى اقتصاده بسبب عائدات النفط المنخفضة وعجزه تمويل امبراطوريته المترامية الاطراف، وبالتالي انهار الاتحاد السوفييتي واستقلت الجمهوريات الشرق اوروبية وتقلص نفوذه الى روسيا الفيدرالية، واعقب ذلك التهديد العراقي لدول الخلبج كافة بأنها وراء ارتفاع المعروض النفطي في الاسواق، وبالتالي السبب وراء انخفاض أسعار البترول العالمية، ثم قيامه باجتياح الكويت عام 1990م واجزاء من المملكة العربية السعودية، والتي في حينها رفعت الأسعار بسبب المخاوف من نقص الإمدادات، ولكنها ما لبثت أن تراجعت وانخفضت الاسعار إلى ما دون مستواها منذ عام 1973م.
آلية ضبط الأسعار
لظروف عديدة، نجحت «أوبك» في عام 1996م في ضبط الحصص لفترة وجيزة وبدأت الأسعار تدخل في موجة تصاعدية إلا أن تلك الموجة لم تدم طويلا وبدأت في التدهور سريعاً في بداية عام 1998م؛ نتيجة لتأثير عوامل خارجية منها الأزمة الاقتصادية في آسيا، وتفادياً للانهيار الكلي لأسعار النفط التي وصلت إليها آنذاك، لم تجد مجموعة دول أوبك للحفاظ على أسعار النفط إلا أن تتفق بشكل جماعي من خلال إمداد العالم باحتياجاته النفطية بصورة تتسق مع احتياجات الدول المستهلكة والمنتجة ومتطلباتها وذلك بالتحكم في كمية النفط الذي تنتجه، وقامت «أوبك» بتخفيض إنتاجها بمقدار ثلاثة ملايين برميل في عام 1999م، وبدأت الأسعار في الارتفاع إلى حدود 25 دولاراً للبرميل، واتبعت المنظمة خطة تهدف في ذلك إلى أن يكون سعر سلتها في نطاق 22 و28 دولارا للبرميل، وبمعنى آخر تطبيق ما يعرف بآلية ضبط الأسعار Price band mechanism، التي بمقتضاها تتم زيادة الإنتاج أو تخفيضه بين حد أدنى إذا وصل السعر 22 دولاراً وحد أعلى إذا بلغ سعر البرميل 28 دولارا للبرميل من سلة «أوبك»، ونجحت تلك الآلية خلال السنوات اللاحقة لتطبيقها بحيث ارتفع السعر خلال الفترة بين سنة 2000 و2003 إلى نحو 25 دولاراً للبرميل ولكن تدرج الارتفاع إلى أن وصل مستويات مرتفعة جداً وعجزت منظنة «أوبك» عن ضبط استقرار الاسعار وفي موازنة السوق النفطية؛ نظراً لما توضحه موجات الارتفاع والانخفاض الحاد في الأسعار منذ إنشاء منظمة «أوبك» وحتى الآن، وخاصة الفترة ما بعد عام 2000م، فبالرغم من الارتفاع المستمر لأسعار النفط على فترة طويلة نسبياً إلا أن الطلب تجاوز المعروض واستمر بمستويات عالية وفي صعود مستمر وصل الى نحو المائة والخمسين دولارا للبرميل بمنتصف عام 2007م، ثم انهارت الاسعار الى مستويات الثلاثين دولاراً بعد الازمة المالية، ثم بدأت الأسعار في التعافي رويداً رويداً الى الاسعار الحالية التي تلامس المائة دولار، وفي المقال اللاحق سنلقي الضوء على اهم الدروس المستقاة والتي من الممكن الاستفادة منها منذ انشاء منظمة اوبك الى وقتنا الحالي بما يخص أسعار البترول.
نقلا عن جريدة اليوم