تذكر لنا كتب التاريخ أن ملوك أوروبا كانوا يرسلون أبناءهم إلى بلاد المسلمين للدراسة والاستفادة من علومهم وحضارتهم، ومنهم فيليب ملك بافاريا الذي استأذن الخليفة الأموي هشام الثالث في إرسال طلابهم إلى الأندلس، وكذلك جورج الثاني ملك إنجلترا الذي أرسل بعثة من بنات النبلاء والأشراف، وفي مقدمتهن الأميرة دوبانت ابنة أخيه إلى الأندلس، ووجه معهن خطاباً إلى الخليفة الأموي يقول فيه: " أردنا الاطلاع على حضارتكم لتكون بداية حسنة في اقتفاء أثركم لنشر نور العلم في بلادنا التي يحيط بها الجهل ".
إن الحضارة الإسلامية التي طلب ملك إنجلترا الاطلاع عليها لنشر نور العلم في بلاده لم تقتصر على علوم بذاتها، ولكنها شملت كافة العلوم بما فيها الاقتصاد قبل أن يصبح علماً، وإنما بمعناه المأخوذ من القصد، وهو استقامة الطريق والعدل، وهو الضوابط التي تنظم كسب المال وإنفاقه وتنميته، والتي في حقيقتها أحكام شرعية عادلة مستمدة من فلسفة اقتصادية متفردة تقـوم على مبـادئ عقـائديـة تنبني على كون الإنسان مستخلف من الله كما جاء في قوله تعالى: " وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً " البقرة 30.
والخلافة في الأرض تكون لعمارتها واستثمار خيراتها التي سخرها الله للإنسان لقوله تعالى: " وَإِلَى ثَمُودَ أَخَاهُمْ صَالِحًا قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُواْ اللَّهَ مَا لَكُم مِّنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ هُوَ أَنشَأَكُم مِّنَ الأَرْضِ وَاسْتَعْمَرَكُمْ فِيهَا " هود 61، وعلى الإنسان وهو يمارس دوره في عمارة الأرض أن يأتمر بأوامر الله وينتهي عن نواهيه لقوله تعالى: " أَلاَ لَهُ الْخَلْقُ وَالأَمْرُ " الأعراف 54، وقد حدد الله عز وجل للمسلمين طرق كسب المال وأمرهم بالإنفاق من هذا الكسب في آية واحدة في قوله تعالى: " يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ أَنفِقُواْ مِن طَيِّبَاتِ مَا كَسَبْتُمْ وَمِمَّا أَخْرَجْنَا لَكُم مِّنَ الأَرْضِ " البقرة 267، ونظم لهم طريقة الإنفاق من الكسب الطيب الحلال في قوله تعالى: " وَالَّذِينَ إِذَا أَنْفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا وَكَانَ بَيْنَ ذَلِكَ قَوَامًا " الفرقان 67، وتوعد الذين لا ينفقون في قوله تعالى: " وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلاَ يُنفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَبَشِّرْهُم بِعَذَابٍ أَلِيمٍ " التوبة 34.
علاقة التذكرة التاريخية بضبط المفاهيم الاقتصادية
هناك علاقة وثيقة بين ازدهار حضارة أي أمة في عصر من العصور وبين انتشار ثقافة ولغة ومفاهيم هذه الأمة بين باقي الأمم والدول في كافة مجالات العلوم، وهذا ما حدث مع أمتنا الإسلامية في عصورها الزاهرة حيث كانت في صدارة الأمم تتزعم موكب الحضارة، فيؤمها طلبة العلم من كل أصقاع الأرض، يتعلمون فيها العلم على تنوع مجالاته، فيعودون إلى ديارهم ينشرون ما حصّلوه من علوم ومفاهيم على أيدي المسلمين مستخدمين المصطلحات العربية.
وعندما تراجعت أمتنا الإسلامية عن نشر تاريخها الحضاري بين الأمم أصبحت أمة تابعة تتلقى علومها وثقافتها ومفاهيمها من الأمم الأخرى بلغات تلك الأمم، وكان نتيجة لذلك ما نشاهده اليوم من ظاهرة انتشار المدارس العالمية والجامعات الدولية التي تدرس باللغة الإنجليزية في دول أمتنا الإسلامية، والتي يتسابق أولياء الأمور لإلحاق أبنائهم بها بدعوى أن مناهجها ممتازة، ومستقبلها مضمون، وغير ذلك من الأسباب والمبررات، مما فتح الباب للترويج لمفاهيم معظمها لا يتماشى مع قيم ومبادئ مجتمعاتنا في كافة مجالات الحياة.
ومن ضمن ما انتقل إلى مجتمعاتنا المفاهيم والمصطلحات الاقتصادية الغربية التي تعلي من شأن النظام المالي الوسيط على حساب العمل والإنتاج الحقيقي، فأصبحت النقود سلعة تباع وتشترى ويتولد عنها دخل، وحلت الفائدة الربوية محل الربح، وأصبح كنز الودائع في البنوك بفائدة استثمار بعائد، وأصبحت المراهنة والمقامرة تجارة بالأسهم في البورصة، وأصبح تصنيع السجائر والخمور إنتاج، وأصبح الإسراف في استهلاك السلع الكمالية والترفيهية إنفاق، وصار عقد القرض بفائدة تمويل، وتوارت عقود التمويل الشرعية كالمشاركة والمضاربة والمرابحة والإجارة وغيرها من العقود المالية الإسلامية، وهذه مجرد أمثلة وغيرها الكثير من المفاهيم الاقتصادية التي تتعارض مع منهج الاقتصاد الإسلامي، ولأهمية موضوع ضبط المفاهيم الاقتصادية سأقدم بمشيئة الله سلسلة من المقالات في هذا الشأن، وستكون البداية بمفهوم الشركة في الاقتصاد الإسلامي.