أهمية الصناعات التقنية في التنمية الاقتصادية الحديثة

17/12/2013 0
د. أيمن عبدالمجيد كيال

تسعى معظم الدول حول العالم إلى تنمية اقتصادها الوطني وتحسين وضعها التنافسي عالميا بطريقة حديثة لا تعتمد على حجم الدولة أو ثرواتها الطبيعية، بل على كيفية استغلال المميزات التفاضلية بالطريقة المثلى لتحقيق رخاء اقتصادي وتنمية مستدامة. 

ويقول الاقتصادي الشهير مايكل بورتر: إن الحصول على تنمية اقتصادية عالية لأي دولة (خصوصاً بالنسبة للدول النامية) يتطلب جهدا يفوق مجرد تحرير الاقتصاد الوطني للأسواق العالمية الحرة.

فالأمر يتطلب بناء مقدرة محلية ذاتية في صناعات تقنية تتمكن من خلالها الدولة من الدخول في حلقات القيمة المضافة التي تعتبر الآن قوام التنمية الاقتصادية في جميع الدول. 

وتعتمد تنافسية الدولة وتنميتها الاقتصادية على مستوى الإنتاجية التي تعتمد بدورها على القيمة المضافة في الإنتاج. 

ولتحقيق قيمة مضافة عالية في الانتاج لا بد ان يحتوي الهيكل الصناعي للدولة على صناعات تصنف عالميا بعالية التقنية التي تنتج منتجات وخدمات ذات محتوى معرفي كثيف تساهم في تنمية اقتصاد وطني مبني على المعرفة دون اللجوء إلى استغلال كثيف للموارد الطبيعية به.

ومما لا شك فيه الآن ان الصناعات التقنية هي قوام الاقتصاد المبني على المعرفة، واذا كانت أي دولة نامية ترغب في تنمية اقتصادها بطريقة حديثة مستدامة لتدعم تحويل مجتمعها واقتصادها الى مجتمع واقتصاد مبني على المعرفة لا بد من الدخول -وبقوة- في إنتاج وتصدير بعض هذه الصناعات التقنية التي سيشار اليها لاحقا.

وقد نجحت العديد من الدول التي كانت تعتبر سابقا كدول نامية في النهوض باقتصادها الى مستوى الدول المتقدمة في فترة وجيزة من خلال عمل تغيير في ديناميكية اقتصادياتها وهيكلها الصناعي الشيء الذي مكنها من التغلب على العوائق التي واجهت نموها واستغلالها الأمثل لمواردها الطبيعية وتحسين أفضليتها التنافسية. 

ولمعرفة المزيد عن الصناعات التقنية لا بد من النظر الى أسلوب تصنيف المنتجات المتعارف عليه عالميا.

بصفة عامة، هناك تقسيم مبدئي يوصف المنتج حسب مستوى تصنيعه إما كمادة خام أو كمنتج مصنع.

وتصنف المنتجات المصنعة حسب مستوى التقنية التي كونتها وتنقسم الى متدنية التقنية، ومتوسطة التقنية، وعالية التقنية. 

وتعرَف الصناعات العالية التقنية عادة بثلاث خصائص هي: - ان الصرف على البحث والتطوير فيها أعلى من باقي الصناعات - توظف عدد أكبر من ذوي التخصصات العلمية والهندسية - تكون القيمة المضافة في الإنتاج بها عالية.

ويوضح الجدول-1 التصنيف العام للمنتجات.

ولمعرفة الأثر الاقتصادي الناتج من الصناعات التقنية بالامكان التعرف على أحجام تداولها عالميا، حيث إنها أثبتت نموا عاليا مقارنة مع المنتجات الأخرى.

وتعتبر الصناعات المتوسطة التقنية والعالية التقنية هي أكثر الصناعات من حيث الحجم والنمو في التداول العالمي.

وتقود الصناعات العالية التقنية حاليا التداول التجاري الدولي، وينتظر أن تكون الأكبر حجماً من حيث التداول بسبب نموها المتسارع مقارنة مع المنتجات المبنية على موارد طبيعية أو المنتجات المتدنية التقنية والمنتجات متوسطة التقنية.

وتعتمد معظم الدول الصناعية وشبه الصناعية حاليا على تصنيف صناعي أدق وشبه موحد عالميا وهو التصنيف الصناعي القياسي العالمي ((International Standard Industrial Classification «ISIC)) حيث يساعد ذلك في عمل التحاليل والمقارنات والتخطيط.

وحسب التحديث الثالث لهذا التصنيف هناك 99 صنفا عاما من المنتجات والخدمات التي تشمل جميع القطاعات الانتاجية ويتفرع منها جميع أنواع المنتجات الخدمات.

ويمثل قطاع التصنيع 22 صنفا عاما فقط ويرقم جميع منتجاته من رقم 15 الى 37 في هذا التصنيف.

وتصنَف المنشآت الصناعية في التصنيف الصناعي القياسي العالمي حسب منتجاتها الرئيسة التي تنتجها.

وتقوم حاليا جميع المنظمات الدولية ذات العلاقة بالتنمية الصناعية بتقسيم هذه الصناعات حسب مستواها التقني الى أربعة أقسام عامة: عالية-التقنية، ومتوسطة-التقنية (المرتفع)، ومتوسطة-التقنية (المنخفض)، ومتدنية-التقنية.

وللاختصار عادة تتم تسمية المنتجات المصنعة التي تندرج في الصناعات المصنفة ضمن أول قسمين كصناعات عالية التقنية.

ونود التنويه هنا الى أن هذه التصنيفات مبنية على المنتج النهائي الرئيس الذي تبيعه المنشأة وليس وصفا لعمليات التصنيع والمكائن التي تستخدمها المنشأة لتصنيع المنتج.

فمثلا تصنف الأقمشة كمنتجات متدنية التقنية، لكن من المعروف أن تصنيعها يعتمد على مكائن وأنظمة حديثة تصنف أغلبها كمنتجات عالية التقنية، لكن هذه المكائن ما هي إلا مقتنيات رأس مالية قامت مصانع الأقمشة بشرائها من مصانع أخرى تندرج في التصنيف تحت عالية التقنية.     

إن تصدير المنتجات التقنية المدرجة في الجدول-2، لم يعد مقتصرا على الدول الصناعية فقط، بل إن العديد من الدول التي كانت تعتبر نامية وشبه صناعية سابقا مثل الصين وكوريا الجنوبية وماليزيا وسنغافورة وايرلندا وفنلندا تمتعت بنجاح اقتصادي متميز من خلال دخولها هذا المجال منذ فترة ليست قصيرة، ما يشير إلى وجود نقلة نوعية حدثت قبل عقود جعلت هذه الدول تمتلك قدرة محلية عالية مكنتها من الدخول في مجال إنتاج وتصدير المنتجات التقنية ومنافسة الدول الصناعية الكبرى.

إن السبب وراء هذه النهضة الاقتصادية كان موضوع دراسات اقتصادية واجتماعية عديدة بينت إن هذه الدول اتبعت منهجية واضحة وسياسة فاعلة كانتا السبب في تحويل تلك الدول إلى اقتصاديات ناجحة.

وهناك الآلاف من الدراسات والمقالات التي ركَزت على رصد وتحليل النمو الاقتصادي والصناعي للدول المشار اليها ودول أخرى، ولا يتسع المجال هنا لتكرار ذلك، لكن ما يستنتج من تحليل التنمية الصناعية التي حدثت في هذه الدول أن جميعها قد طرأ عليها نمو واضح في صادراتها للمنتجات العالية التقنية، بالإضافة إلى القيمة المضافة في الإنتاج، ما أسهم في توسيع القاعدة الاقتصادية وزيادة الناتج الإجمالي وتوفير فرص وظيفية جديدة عالية الدخل.

إن أحد أهم العوامل المشتركة بين جميع هذه الدول النامية الذي مكنها من الدخول بسرعة في الصناعات التقنية هو التدخل الحكومي المباشر في إنشاء هذه الصناعات محليا.

فقد سعت حكومات تلك الدول الى استقطاب وحدات إنتاجية لشركات عالمية، وقامت بتحديد ودعم شركات محلية للدخول في هذه الصناعات وحمايتها لمدة زمنية كافية وضمان نسبة من المشتريات الحكومية منها.

بالاضافة الى مساعدة الشركات المحلية في اقتناء مصانع قائمة في دول أخرى، لتمكينها من الاستحواذ التدريجي على التقنية والمعرفة اللازمة لبناء قدرتها الذاتية في إنتاج وتطوير منتجات تنافس على المستوى العالمي.

تجدر الاشارة هنا الى ان كل ذلك حدث قبل دخول تلك الدول منظمة التجارة العالمية (WTO) حيث إن انظمة التجارة العالمية تحد من التدخل المباشر للدولة -بعد انضمامها للمنظمة- في دعم الشركات الصناعية ما عدا مجال البحث والتطوير.

وقد كان للمملكة العربية السعودية جهود جبارة ورائعة كانت مشابهة للدول المذكورة سابقا في إنشاء صناعة البتروكيمايات خلال السبعينات الميلادية، لكن هذا التدخل المباشر والمركز لم يشمل صناعات أخرى وبخاصة العالية التقنية.

ومن خلال مقارنة بيانات تصدير المنتجات العالية التقنية لبعض الدول، بالإضافة للمملكة العربية السعودية يظهر لدينا في شكل-1 ان المملكة تعتبر حاليا بعيدة نسبيا عن تلك الدول من حيث تصدير المنتجات العالية التقنية ما يشير بوضوح إلى ضعف الصناعات التقنية بها.

لقد اعتمدت الدول النامية -التي نجحت في بناء ميزاتها التنافسية، والتوسع في الإنتاج والتصدير- على استراتيجية صناعية واضحة مبنية على أسس التنمية المستدامة، وهي الارتقاء بمستوى الصناعة المحلية، لتكون الصناعات العالية التقنية العصب الرئيس لإنعاش الاقتصاد الوطني، وتحسين المستوى المعيشي.

واتبعت هذه الدول منهجين عامين لبناء تنميتها للصناعات التقنية، هما:

1- جذب الاستثمارات الأجنبية والشركات العالمية في الصناعات التقنية.

2- الاعتماد على الشركات والمؤسسات المحلية وبناء قدراتها الذاتية على التوسع التدريجي من الصناعات المتدنية التقنية إلى الصناعات المتوسطة والعالية التقنية، والاستغلال الأمثل للموارد الطبيعية، والطاقات البشرية الوطنية.

وكلا المنهجين يتطلب تطوير البنية التحتية والأنظمة والتشريعات، وطرق الإنتاج ومناهج التعليم، وتكوين البنية التحتية للتكتلات الصناعية، وتهيئة المناخ الاستثماري.

إن تركيز الجهود على أحد المنهجين يعتبر وضعاً غير سليم اقتصادياً، فالأمثل هو استخدام المنهجين بنسب متفاوتة حسب نوع الصناعة المستهدفة ومستوى التنمية الذي وصل إليه الاقتصاد الوطني في مرحلة زمنية معينة.

فعلى سبيل المثال هناك دول نامية مثل ماليزيا وسنغافورة وبعض دول جنوب أمريكا اعتمدت بنسبة كبيرة على جذب استثمارات الشركات العالمية، لتطوير قدراتها وأحجام صادراتها من الصناعات التقنية، بينما اعتمدت دول مثل تايوان وكوريا الجنوبية على تقليص دور الاستثمارات الأجنبية المباشرة، لترجيح كفة الشركات والمؤسسات المحلية للارتقاء بمستوى الصناعة تدريجيا.

أما الصين فتعتمد على المنهجين بنفس النسبة.

إن عملية الارتقاء بمستوى الصناعة يتطلب العديد من العناصر، التي من أهمها: تنمية الموارد البشرية، إنشاء البنى التحتية الحديثة المتطورة، وضع استراتيجية صناعية طموحة، تفعيل سياسات حكومية سليمة، وتوفير الدعم المالي والمحفزات لجذب الاستثمارات المباشرة التي تركز على الصناعات التقنية، لكن يبقي دائما الجانب الأهم الذي يفتقر اليه العديد من الدول النامية وهو وضع آليات ربط قوية جدا بين جميع هذه العناصر، لتفعيلها كمنظومة واحدة تعمل لهدف وطني موحد.

نقلا عن جريدة اليوم