من الواضح أن جناحًا بالحزب الجمهوري الأمريكي شرع يُطارد صيدًا يحسبه "طريدة"، حتى إذا جاءته قد لا يتمكن من اصطيادها، لأن طريدته لن تستجيب مهما رفع من وتيرة الابتزاز، أو لوّح بتهديد الديمقراطيين بسحب التمويل من قانون الرعاية الاجتماعية وما يُسمَّى "بأوباما كير". لأن رفض الأغلبية الجمهورية بالكونغرس رفع سقف الدين العام إجراء سياسي وليس اقتصادي، وكونه كذلك لن يُحقِّق للحزب الجمهوري إلا المزيد من الخسائر في شعبيته، وقد يحصل في المقابل على كراهية الأمريكيين.
ومن المفارقات أن هذا الإجراء ليس الأول من نوعه، فقد حدث في عام 1995م وامتد لمدة خمسة أيام، وحينها لم يكن له أثر اقتصادي سوى انعكاسه سلبًا على الاقتصاد الأمريكي، لذا يبدو توظيفه سياسيًا لتهديد الديمقراطيين بمثابة تكرار لمحاولة يائسة لم تُحقِّق نصرًا لأن القضية من أساسها خاسرة وبالتجربة العملية، ولهذا فقرار الأغلبية الجمهورية لن ينال من عزم الديمقراطيين كحزب أو على مستوى حكومة الرئيس أوباما، فحكومة أوباما تعلم أن هذا الإجراء لن يُقلِّل من معدل صرف الحكومة على أهم بندين في الموازنة، وهما الصرف العام الإلزامي، والصرف على القطاعات ذات الطبيعة السرية، ومن أمثلة التمويل الإلزامي تمويل برامج "ميديكير للمتقاعدين"، و"ميديكيد" للفقراء، وبرنامج رعاية قدامى المحاربين الذي يغطي علاج كل من خدم في القوات المسلحة الأمريكية، ولهذا خطوة الكونغرس تبدو يائسة ومتهافتة تكشف القناع عن مستوى سقوط الممارسة السياسية، والأهم أن تأثيرها سيكون مؤقتًا، وسيطال فقط دفع أجور 800 ألف موظف فيدرالي، وهؤلاء سيتضرّرون ولكنهم أيضًا سيأخذون اجازة إجبارية لحين انتهاء المساومة.
أما الهدف الحقيقي الذي يسعى له الجمهوريون من عدم رفع سقف الدين الأمريكي فهو المساومة السياسية، وهو لن يتحقق كما يأملون، لأن قرارهم لم يؤثر في الصرف الإلزامي الحكومي، ولن يتأثر به الصرف على المؤسسات ذات الطبيعة السرية، أو تلك التي تُموّل بآلية لا يسمح بكشف أرقامها مثل القوات المسلحة الأمريكية والسي آي إيه وغيرها، وبالتالي فإن من يتأثّر قطاع محدود في الاقتصاد الأمريكي، وحتى بالنسبة لتأثر الاقتصاد الأمريكي، فإن البعض يُقدِّر تأثُّر النمو بما يُعادل 0.1 في المعدل السنوي، ومن ناحية أخرى فإن الخدمات ستتم لمن يطلبها وكأن شيئًا لم يكن، وحتى لو لم تكن هناك سيولة فإن الخدمة ستُقدَّم وستُسدَّد فواتيرها لاحقًا، لأنه يستحيل إغلاق القطاع العام الأمريكي للأبد.
وما يدعم صحة استنتاجاتي ردّة فعل الأسواق عمومًا، فقد كان عنوانها الرئيس "اللامبالاه"، وخاصة الأسواق الأمريكية، فمعظم مؤشراتها عكست لفترة وجيزة درجة من البلبلة وهو أمر طبيعي ولكنها عادت سريعًا للتكيف، وصححت وضعها في مسارها الطبيعي، وهي ذات ردّة الفعل بالنسبة للأسواق الأوربية والعربية، لأن الأسواق عمومًا تيقّنت بأن ما يجري لا يتعدّى "مخاشنة" سياسية بين حزبين متنافسين.
وما يتوقّعه المرء في الأيام القادمة أن تتم مساومة بين الحزبين، يتنازل في نهايتها كل طرف للآخر عن شيء ما ولو كان ضئيلا، ثم تبرم صفقة سياسية لا تمت بصلة للاقتصاد الأمريكي أو العالمي، ولكنها تحفظ للحزب الجمهوري بعض ماء الوجه، وتعوّضه عن مطاردته لقضية كانت ومازالت وستظل خاسرة.
اتفق معك أنها قضية خاسرة، وعند فوزهم مستقبلا بالانتخابات سيرد الديموقراطيين باشنع من المثل. والعين بالعين.