في التاريخ الاقتصادي عِبَر ودروس تفيد مَن يطّلع عليها، وتجارب الأمم المتقدمة بالذات تحصن استنتاجاتنا من الخطل والخطأ في التقديرات، وتقربنا إلى الصواب إلى أقرب حد ممكن.
ومن التجارب الاقتصادية الملهمة ما حدث بنهاية الحرب العالمية الثانية، وقتها انتشر الفقر، وعمّت البطالة في أنحاء أوروبا الغربية والضفة المقابلة للأطلسي، ولكي يتم كبح زحف الفقر والبطالة حاولت حكومة الرئيس جونسون معالجة آثارها المتفشية وقتئذٍ، ولهذا قررت في 1964- 1966م حل مشكلة البطالة والفقر عبر آليتين، هما خفض الضرائب وزيادة الإنفاق العام، وهو ما أدّى تلقائيًّا إلى تحفيز القطاع الخاص ليتوسّع، ممّا انعكس على ارتفاع مستوى الطلب للأيدي العاملة، ولكن في المحصلة ظلت إستراتيجيات جونسون غير فعالة مع الصرف العالي على الاقتصاد، بل انعكست سلبًا على الطبقة الوسطى، حيث انخفض دخلها إلى 2.5% في منتصف الستينيات وبداية السبعينيات، بينما من يملكون الأصول والمال وجدوا أنفسهم في وضعيّة ملائمة لجني ما لا يستطيع ذوي الدخل المحدود الحصول عليه، ولما كانت الطبقة الوسطى هي الهدف ولكنها لم تتمدد بسبب أن هذه الإستراتيجيات أحدثت عدم استقرار في الأسواق؛ بحيث عمّتها درجة من البلبلة والتوقعات، وأدركت حكومة جونسون أن النمو الاقتصادي تم الزحف عليه وعلى دخول الفقراء وابتلاع كليهما. وطرح هذا تساؤلاً مشروعًا: ماذا الذي يمكن أن تفعله أي حكومة في هذا الاتجاه؟!
إن البرامج المحلية التي يتم تفصيلها على استيعاب الأيدي العاملة بالقطاع الخاص برامج جيدة، ولها مردود إيجابي في المدى المنظور، وقد قدمت برامج "حافز ونطاقات" بعض الدعم، وخاصة في ظل رعاية صندوق تنمية الموارد البشرية للتوظيف في القطاع الخاص، ولكن مع ذلك لا تستطيع هذه البرامج العمل لوحدها، لأنها بطبيعتها تستهدف جزءًا من الصورة، وهي الحد من الأيدي العاملة الأقل كلفة، بينما معالجة البطالة تستلزم أن تكون ضمن إستراتيجية بعيدة المدى قد تمتد لعقدين أو أكثر، وتتضمن بصورة أساسية مشروعًا للضمان الوظيفي، ويُرجى إن -اعتمد مشروع الضمان الوظيفي- أن تُصاحبه إستراتيجيات فرعية تستهدف تحفيز النمو في الاقتصاد الوطني، مع معالجة أي عيوب هيكلية وخاصة مخاطبة سلبيات التعليم العام والعالي، بحيث يتم توجيه المهارات التعليمية لخدمة الاقتصاد الوطني.
وهذا يستدعي الإجابة عن الأسئلة الشائكة مثل: لماذا نرفع في نسب خريجي الدراسات الإنسانية والأدبية مقارنة بالعلمية والفنية والتقنية؟ وما الذي نريده أصلاً من التعليم في المديين المنظور والبعيد؟ كما ينبغي أن تستهدف الإستراتيجية الأساسية برامج (مفصلة) على طالبي العمل في الاقتصاد المحلي. لأن هؤلاء فئة ترغب في الانخراط في أي عمل شريف، لأن حاجياتهم الأساسية هي أولويات أي إنسان، فهم يرغبون في العيش والعلاج والسكن وكفالة أسرهم، وهي ضروريات لن تستطيع الانتظار أو التأجيل، وهذا ما يُفسِّر عدم الإقبال أو يُفسِّر مبررات التسرب، أو حتى رفض البرامج التي تستهدف تطوير مهارات هذه الفئة وتدريبها، إنهم يُفضِّلون الأعمال الهامشية التي لا تضيف للاقتصاد قيمة على الانخراط في رفع مهاراتهم ثم توظيفهم، وفي النتيجة لا تتحقق المقاصد النبيلة بإخراجهم من دائرة الفقر أو الحد من معدل البطالة في الاقتصاد.